بين الحلم والخيال علاقة وطيدة، لا ينفصل الحلم عن خيال صاحبه. أحلام اليقَظة خصوصاً لا تكون بلا مخيلة خصبة. لا يمكننا الحلم بشيء من دون تصوّره ورسمه في أذهاننا. الواقع نفسه غير ممكن بلا تلك المخيلة الشاسعة التي لا حد لها ولا قوانين أو ضوابط. معظم ما توصلت إليه البشرية من اكتشافات وابتكارات بدأ أخيلةً في أذهان أصحابها. ثمة ما يُسمى الخيال العلمي، هذا بالتحديد أنتج أدباً وفناً رائعين، ومنحنا قصصاً وروايات قرأها الملايين، منها أعمال جول فيرن مثالاً لا حصراً. كثيرٌ مما شاهدناه يوماً بوصفه خيالاً أمسى حقائق لا نستطيع الاستغناء عنها. نذهب إلى حدّ القول بأن كلّ ما يتصوره الخيال البشري ويؤلفه قابلٌ لأن يكون، كيف ومتى تلك مسألة أخرى. نزداد قناعةً بما نذهب إليه حين نقرأ أن الإنسان لا يستخدم سوى جزء بسيط من دماغه، وأن ما خفيَ أعظم، أو حين يقول فنان عظيم مثل بابلو بيكاسو إن «كل ما تخاله هو حقيقة».
السؤال الأصعب هو من أين يأتي الخيال؟ حين نخالُ ما نعرف تغدو الإجابة ممكنة: لعلها الذاكرة تعيد تشكيل الأحداث والوقائع. أما حين نخال ما لا نعرف ولم يسبق لنا عيشه أو مشاهدته أو حتى السماع به تغدو الإجابة أكثر صعوبة. أهو نتاج أماكن غير مكتشَفة في العقل البشري، أم نتاج ذاكرة أخرى متراكمة أو مترسبة من عوالم لا ندركها؟ أسئلة كثيرة الاستغراق فيها والإكثار منها يقودنا إلى ما يشبه الجنون. لكن هل كان الإنسان لِيَصل إلى ما وصل إليه لو تلك الأخيلة المجنونة في رؤوس أصحابها، أو تلك الأسئلة الشائكة التي طرحها الشكّاكون غير الموقنين بالمسلّمات والمُتعارَف عليه: إنها تدور!
ما عليه، لا نناقش الخيال العلمي حصراً، ولا ما ذهبت إليه غالبية مذاهب علم النفس من أنه إعادة تصور لأشياء ناجمة عن إدراكٍ حسيٍّ، بل ما عرّفته القواميس أنه «ما تشبَّه للمرء في اليقظة أو المنام من صورة، أو هو ما تخيَّل في الذِّهْن من أشياء لا وجود لها في الخارج»، و «قُوَّة باطنيَّة نتصوَّر بها الأشياء ونتمثَّلها، وهي قادرة على الخَلْق والابتكار». نتجاوز السؤال عمّا هي تلك القوة الباطنية التي تهبنا مقدرة تصور أشياء لا وجود لها وصولاً إلى الخلق والابتكار. نترك لأهل الاختصاص البحث عن أجوبة شافية، لنُبقي على سؤالنا هل كانت الحياة ممكنةً بلا الخيال؟
يبدو ضرباً من المستحيل تصور الحياة بلا خيال. حتى ونحن نفكِّر بمثل هذا الاحتمال نضطر لاستخدام خيالنا. إذاً الخيال ليس أمراً خارج الوجود، ليس غيباً أو ميتافيزيك، هو جزء «عضويٌّ» من النَّفْس البشرية. كيف؟ أغمض عينيك جيداً، هل تستطيع إدراك العالم بلا أخيلة أو بلا تصورات واقعية وغير واقعية؟ يذهب آينشتاين إلى الاعتقاد بأن «الخيال أهم من المعرفة لأنه يحيط بالعالم»، الإحاطة بالعالم تعني في هذه الحال أن كل ما هو متخيل ممكن الوجود أو ممكن الحدوث.
واحدة من أبرز المشاكل التي يواجهها العقل العربي هي سدّ منافذ خياله بِكَم هائل من اليقينيات، باسم الدين والأخلاق والوطن والعادات والتقاليد، حتى أصابه التكلّس والصدأ وبات غير قادر على إنتاج الوعي والمعرفة الضروريين للتقدم والتطور. تراكمُ المحظورات والمحرمات والممنوعات الفكرية والعلمية، واعتماد مناهج تعليم تلقينية بائسة جعلا الخيال العربي غير صالح لغير الهروب من الواقع المُرّ، أما إمكانية الابتكار والاكتشاف فمحاصرة بتلك اليقينيات التي تجعل العقل محكوماً بحدود ضيقة وسقوف تمنعه من التحليق في فضاء الخيال الخصب المثمر.
الخيال ليس هروباً من الواقع، الخيال فرصة لجعل الواقع أفضل، والأمم لا تتقدم ما لم تحرّر العقل ولا تحول بينه وبين أجنحة المخيلة.