أسلمة رسميّة لم يطلبها الدين وتنشئ التطرّف/ ابراهيم غرايبة

تبدأ مواجهة التطرف بتفكيك شبكة عميقة مؤسسية وتعليمية واقتصادية ترعاها الدول والمجتمعات والشركات، قائمة على «الأسلمة». لقد تشكلت متوالية هائلة ومعقدة من المؤسسات والكليات والمناهج التعليمية والأسواق والبنوك والشركات، ولم يعد ممكناً وقف هذا التطرف المتنامي إلا بالعودة إلى مبتدأ «الأسلمة» التي اشتعلت في العالم العربي والإسلامي. ذلك أن ما تقوم به الأنظمة في مواجهة التطرف لا يختلف عن الانشغال بإطفاء الحرائق من دون وقف مصدر اشتعالها، وذلك كخزان هائل يتدفّق منه الوقود فيزود الحرائق المشتعلة وينشئ حرائق جديدة بلا توقف. وسيظل ما تفعله السلطات والمجتمعات في مواجهة التطرف مهمة سيزيفية أبدية ومستحيلة.

بدأت منظومة «الأسلمة» وما نشأ عنها من جماعات وأنماط جديدة من التدين السياسي والعنفي ومن تدمير المؤسسات الدينية العلمية والروحية التي كانت قائمة وتعمل لقرون عدة، بالتحول من التدين إلى الأسلمة، أو من التأثير في الأفراد والمجتمعات والمؤسسات القائمة على أساس من الدين إلى تغييرها أو إنشاء منظومات بديلة مختلفة عنها جذرياً تحل مكان المنظومة «الجاهلية» أو تصارعها وتنافسها. هكذا صارت لدينا بنوك إسلامية وكليات جامعية للصيرفة الإسلامية وإعلام إسلامي وكليات ودراسات جامعية للإعلام الإسلامي، وكذلك الحال في الحكم والسياسة واللباس والطعام والفنون. وصارت في كل بلد عربي وإسلامي منظومات مؤسسية وفكرية ناشطة وموازية للمنظومات القائمة أو بديلة لها أو منافسة. ومن المفارقات المحيرة، أنها منظومات أنشأتها الأنظمة نفسها ورعتها، وهكذا فالطلاب يدرسون في الجامعات الرسمية التابعة للدول، والتي تنفق عليها من الموارد العامة أنظمة «إسلامية» تعتبر الأنظمة القائمة والمطبقة كفراً وجاهلية يجب تغييرها، وتقدّم في ذلك دراسات وأطروحات جامعية ومقررات ومناهج دراسية تُفرض على طلاب المدارس والجامعات. وماذا أفضل من ذلك للتطرف والجماعات المتطرفة لتحشد المؤيدين والأعضاء والمناصرين والمقاتلين أو تعمل في أمان وسلام في المساجد والجامعات والمدارس، وتهيئ لهم الحكومات إضافة الى ذلك بيئة علمية وبحثية لتحويل هذه الاتجاهات إلى أفكار متماسكة ودراسات علمية ورسائل ماجستير ودكتوراه!

أن تكون في القرآن أحكام واجبة التطبيق في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو توجيهات عامة، لا يعني ذلك أن هناك نظام حكم إسلامياً، أو نظاماً اقتصادياً إسلامياً، أو صيرفة إسلامية. وتطبيق أحكام قرآنية في التشريع والحياة العامة لا يعني ذلك دولة إسلامية، وعدم تطبيقها لا ينفي الإسلام عن الدولة أو القيادة السياسية للدولة، ذلك أن الدولة، أية دولة، لا يمكن وصفها بأنها إسلامية أو يهودية أو مسيحية أو بوذية. فحين نقول دولة ملكية أو جمهورية أو عسكرية، فهل تكون هذه إسلامية أم غير إسلامية؟ وإذا كانت تطبق نظام ملكية الدولة للموارد والمؤسسات والخدمات الأساسية، أو كانت دولة تعتمد نظام السوق أو نظاماً مختلطاً، فهل تكون إسلامية أم غير إسلامية؟ كذلك فتحريم الربا لا ينشئ نظاماً مصرفياً إسلامياً: حسناً، إذا منعت السويد الربا، فهل يمكن وصف نظامها الاقتصادي أو المصرفي بأنه إسلامي؟ ولمّا كانت الدول الشيوعية السابقة تطبّق نظاماً اقتصادياً غير ربوي، فهل نقول إنها كانت إسلامية؟ وللمناسبة، ما الربا؟ ومن قال إن البنوك القائمة ربوية؟ وكيف صارت البنوك المسماة إسلامية إسلامية؟

وهكذا، فبذل الجهود العلمية والمؤسسية لإقامة أنظمة إسلامية ليس سوى عمل ضد الذات ننشئ لخدمته وتطويره مؤسسات ننفق عليها من الموارد العامة، وليس ذلك مطلباً دينياً ولم يأمر به الله، لكننا في ذلك نرعى التطرف ونمنحه بيئة مشجّعة وآمنة.

وأخيراً، كيف يمكن تنظيم الشأن الديني والمؤسسات الدينية والتعليم الديني من دون تناقض مع الدين أو متطلبات الدولة الحديثة، ومن دون رعاية للتطرف؟

شاهد أيضاً

إلى سيدنا…. اليوبيل الفضي* بقلم لين عطيات

عروبة الإخباري – لا يمكن للكلمات أن تُغنى  فهناك من يسّل سيفه حين نُغني … …

اترك تعليقاً