كي لا تصبح رجعياً/ زاهي وهبي

كلَّما تقدَّم الانسان عمراً وتجربةً يزدادُ حكمةً واستخلاصاً للنتائج والعِبر، مثلما يزدادُ استكانةً الى ما يعرفُ وطمأنينةً الى ما أنجز، قد تخفت حماسته للاكتشاف، يتضاعف توجسه من الجديد، وتتملكه خشية من التغيير. الأسئلة التي تتبادر فوراً الى الذهن هي كيف يتجنب المرء الركون والقنوط والكسل الفكري؟ كيف يتفادى أن يغدو من دون انتباه رجعياً وتقليدياً في أفكاره ورؤيته للحياة ومستجداتها؟ كيف يجعل عقله حياً نضراً في جاهزية دائمة لاستقبال الجديد والتفاعل معه من دون تحفظ أو توجس؟

الانسان بالفطرة والسليقة يأنس لما يعرف ويرتاح، يرتاب في الجديد ويشكّك به. كلما طال عمره توطدت علاقته أكثر بما نشأ عليه، صار أكثر رفضاً لما هو طارئ ومستجد، وأشدّ تعلقاً بما يؤمن وبما ورث عن أهله وأسلافه، «… قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (المائدة ١٠٤). من دون انتباه أو دراية يتحوَّل تقليدياً في نظرته للجديد وفي علاقته بهذا الجديد، جميعنا سمع عبارة: يا له من جيل. في استنكارٍ مُضمَرٍٍ لما يأتي به الجيل الجديد من سلوك وعادات وقيم، المفارقة أن كل جيل يقول عن لاحقه: يا له من جيل (!)

بعضهم يرتاح ليقينياته، يعيش بسلام وتصالُح مع تلك اليقينيات، لكن الشكّاك الباحث دوماً عما يشغله ويضنيه لا يكفّ عن طرح الأسئلة وعلامات الاستفهام. ميزةُ الأخير أنه أكثر تكيّفاً مع الجديد، لأنه أصلاً باحثٌ عنه وساعٍ اليه، يعرف مسبقاً أن الجديد متهم ومدان ومرذول، لكن ما أن يثبِّت أقدامه حتى يُعترَف به ويغدو من أصحاب الحظوة لينتهي به المطاف قديماً يخشى جديداً. سنّة الحياة ودورتها الدائمة: قديم اليوم جديد الأمس وجديد اليوم قديم الغد. المهم كيف نتجنب أن يغدو الأمر متاهة أو كابوساً يلقي بثقله على الكائن البشري، خصوصاً غير المتصالح مع المستجدات والمتغيرات مُتشبِثاً بما يعرف ويركن اليه حتى يبدو كمن يحاول عبثاً إيقاف عجلة الأيام.

من حظ جيلنا أننا اجتزنا العتبة، عتبة الانتقال من عصر الى عصر ومن «زمن» الى آخر. فقط قبل أقلّ من عقدين كان معظم ما بين أيدينا اليوم بما فيه الأجهزة الذكية التي نخط بها هذا الكلام ضرباً من المستحيل، ولعل فتى في الثامنة عشرة من عمره الآن لن يستوعب أن الحياة كانت ممكنة بلا (آيفون وآي باد وتويتر وفايسبوك وواتس آب ويوتيوب وسناب شات) وبقية الأسماء الحسنى في كتاب التكنولوجيا المعاصرة، وفي الوقت نفسه قد تجد سبعينياً ينظر بازدراء الى كل ما ذكرناه. تختلف الصورة باختلاف الزاوية التي ننظر منها الى الأشياء ونُقارب بها المسائل.

اليقين المطلق كسلٌ مطلق، حين تكثر يقينياتك تكون كمن سلَّمَ بوضع عقله على الرفّ أو في الدُرج. الأفضل أن تُبقي عقلك حياً، ما من طريقة أفضل من الشكّ، حين تكون دائم الشكّ، كثير السؤال فهذا يعني أنك على قيد الحياة. الشكّ هنا يختلف عن الرفض، رفض الجديد والتشكيك به لمجرد كونه جديداً. لأن المقصود هو الشكّ بالمُسلّمات والبديهيات، الشكّ بالذات وبما هي عليه، لا لأجل الشكّ بذاته، بل لأجل حثّ النَّفْس على البحث والاكتشاف، والوقوف في زاوية أخرى غير الزاوية المألوفة المعتادة، الإصغاء الى الآخر المختلف ومحاولة فهم وجهة نظره. الحقيقة ليست وجهة نظرك وحدك، لعلها معظم الأحيان تتشكل من وجهات نظر متعددة، بل متناقضة. الحقيقة الوحيدة الراسخة في هذه الحياة هي الموت. مأزق الحياة كامن هنا في هذه النقطة بالذات، يا لها من مفارقة: الموت حقيقة الحياة الجازمة.

دماغ الانسان عرضة للخمول والكسل وللاصابة بالصدأ شأنَ أي آلة، لكن زيت الدماغ يختلف عن زيوت بقية الآلات. زيته المعرفة، والمعرفة لا تتحقق بغير البحث والسؤال. كُنْ دائم البحث، دائم السؤال، تكن دائم الحياة.

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات