بدّدت فضيحة المجاعة الممنهجة في مضايا وجوارها، كل الأوهام عن «أخلاقية» ما لدى نظام بشار الأسد وحلفائه، ميليشيات كانوا كـ «حزب الله» اللبناني، أم دولاً كروسيا وإيران. بل إن «اللاأخلاقية» هذه تنسحب على مجتمع دولي تعايش مع مجازر الأسد وسلاحه الكيماوي وبراميله المتفجّرة وصواريخه الباليستية وتصفيته المعتقلين تعذيباً، ومع بشاعة الدور الروسي بسياسة الأرض المحروقة والقنابل العنقودية، الى حدّ أن المجاعة لم تصدمه أو تحرّك ضميره، أو تجعله يراجع رهانه على «بقاء الأسد».
لذلك، يُظهر النظام وأعوانه الكثير من علامات الارتياح الى مسار الأحداث منذ صار التدخل الروسي واقعاً وقلب معادلات الصراع. جمع الأسد كبار الضباط، وقال لهم أن الخطر زال كلياً، ولم يعد هناك داعٍ للقلق، لكن الشهور المقبلة ستكون صعبة وعلينا أن نقاتل كي يُحسَم الموقف نهائياً لمصلحتنا. قال أيضاً، لا تخشوا شيئاً من التحركات الدولية وما يقال عن المفاوضات والحل السياسي، فالحلفاء الروس وجدوا مصالحهم معنا وأثبتوا طوال المرحلة السابقة أن رهانهم الوحيد كان على تماسكنا، ولم يخذلونا في أي لحظة.
يشاطر الضباط رئيسهم الأسد مشاعره، لكنهم لا يجهلون الوجه الآخر من الواقع، وهو غير مطمئِن، ذاك أنهم يعرفون جيداً أن استعادة السيطرة الكاملة تبقى مشروعاً وهمياً من دون مشاركة فعلية من إيران وميليشياتها، وأن روسيا نفسها وافقت على أن العمر الافتراضي للنظام ينتهي بالانتخابات المقترحة في غضون سنتين. وعلى رغم أنهم يقدّرون أن هذه المهلة نظرية، قد تُحترم في موعدها أو تمدّد قليلاً، إلا أنها تعني ما تعنيه. لذلك، لم يلمس الضباط ما يقنعهم بوقف خططهم الخاصة لاستكمال تأمين مستقبلهم مع عائلاتهم خارج سورية.
ما زاد في ارتياح الأسد، أنه وجد لنفسه دوراً جديداً يمكّنه من اللعب ولو بحذر شديد على الحساسيات بين روسيا وإيران، ليبقى مستفيداً من توافقهما وتنافرهما، موزعاً الأدوار على الأعوان المكلّفين التنسيق من كلٍّ منهما. فعلى سبيل المثل، رأى الروس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أن الهدنة ممكنة في بعض مناطق الغوطة الشرقية، وطلبوا التفاوض عليها مع أطراف المعارضة، فانتدب النظام مَن يقوم بالمهمة، وبعدما أُعلنت تلك الهدنة فعلاً، لم يحبذها الإيرانيون (ولا الأسد)، فأقدموا مع شركاء من النظام على قصف مركّز أدّى الى إسقاطها. لا تجهل طهران أن حسابات الأسد وأعوانه تغيرت جزئياً تجاهها، فمع استمرار تعاونهم معها انحازت أولويتهم أكثر الى الروس، الذين أنقذوا النظام وأوقفوا انهياره وجلسوا في غرفة عملياته معوّلين في شكل خاص على الجيش ولا يرغبون في الاستعانة بالميليشيات إلا عند الضرورة.
لكن الأسد لا يستغني عن الميليشيات سواء تلك التي استوردتها إيران أو تلك المحلّية التي أنشأتها ودرّبتها، فهي الوحيدة المتوافرة للنظام كي يعوّض النقص في قواته، إذ إن حواجز حملة اصطياد المدنيين (بمن فيهم بعض اللبنانيين!) لم تحقق نجاحاً. إضافة الى تغلغلهم في الأجهزة، أولى الإيرانيون أخيراً اهتماماً خاصّاً بحزب البعث وأنعشوا وجوده في المشهد، فعاد يتدخّل في الحياة اليومية للنظام وفي التعيينات لمناصب في المناطق، مستقوياً بميليشياه المسمّاة «كتائب البعث». وما يدفع الأسد الى التمسّك بالإيرانيين، يقينه بأنه رجلهم يستخدمهم ويستخدمونه ولا يسعون الى استبداله، فمستوى الثقة بينه وبينهم يبقى أعلى من ثقته بالروس الذين لم يفوّتوا فرصة للإعراب علناً عن عدم اهتمامهم به أو بمصيره. وإذا كان الإيرانيون عاملوه أحياناً بشيء من التهميش، وأكثروا من القول أنه لولاهم لكان سقط، فإن منسوب التهميش زاد مع الروس.
يوجز العديد من الأعوان وضع الأسد، منذ جاء الروس، بأنه يعيش حالياً «رعب البديل». فـ «القيصر» فلاديمير بوتين، يحتاج إليه لتمرير مرحلة، وبعدها سيكون لكل حادث حديث. أما البديل، فقد يكون موجوداً وقد لا يكون، لكن مجرد الشعور بأن البحث جارٍ فعلاً لا بد أن يؤرق الأسد. هنا، يقدّر قريبون منه أنه صار اليوم مهدّداً أكثر مما كان سابقاً، فبمقدار ما أن الروس أنقذوه بمقدار ما أقلقوه، لأن اللجوء إليهم قد يشبه أكثر ما يشبه اللعب بـ «الروليت الروسية».
في خلفية الثقة والارتياح، هناك وقائع كثيرة لا تخلو من الإزعاج، إذ لم يعد سرّاً أن الاهتمام الروسي مركّز على الجيش، حتى أن اللوائح السنوية للترقيات والترفيعات والإعفاءات جاءت هذه المرّة من موسكو. كما أن اتساع رقعة الإشراف الروسي على القطاعات والتحركات الأمنية بدأ يمسّ بمصالح قريبين من الأسد، فهذا رجل أعمال كانت سفنه تفرغ حمولتها فور وصولها الى ميناء طرطوس، لكنها باتت تنتظر أياماً للحصول على الموافقة الروسية، وهناك آخرون مثله، إضافة الى ضباط توزّعوا مختلف مجالات «البزنس»، من تهريب النفط والآثار مع «داعش»، الى التسلّط على وسائل النقل وجمع المحاصيل الزراعية وتحصيل الضرائب، إضافة الى غسيل الأموال. صحيح أنهم ينشطون كالمعتاد، إلا أنهم يشعرون بأن الروس يبدون اهتماماً متزايداً بأعمالهم التي لا علاقة لها بوظائفهم، أو حتى بتمويل حربهم. ولعل تكاثر مشاريعهم في رومانيا وهنغاريا وبيلاروسيا، وحركة تجاراتهم المشتبه بها عبر بيروت ودبي، وضخامة أموالهم في الخارج، هي ما جعل موسكو وطهران تحجمان منذ شهور عن تقديم مساعدات مالية للنظام.
في وقتٍ تبدو العلاقة بين الروس والنظام بالغة التواطؤية، خصوصاً على الصعيد الميداني، إلا أنها غير مريحة دائماً على المستوى السياسي. إذ يقصف الروس مناطق المعارضة وفقاً لـ «بنك أهداف» النظام وبالشدّة التي يتمنّاها، من دون اكتراث بانتقادات أميركية وأوروبية انعدمت تقريباً ولم تعد تلفت موسكو الى استهداف مواقع «داعش» بين حين وآخر، ولو حفاظاً على المظاهر. وقد أظهرت العمليات العسكرية أن الروس يريدون إنهاك المعارضة المسلّحة بعدما ظهر ممثلون عنها في مؤتمر الرياض وأضفوا طابعاً أكثر جدية على المفاوضات المزمعة، تحديداً في ما يتـعلّق بـإعادة هيكلة المؤسّستين العسكرية والأمنية. ومع وجود اختلاف شكلي بين أهداف روسيا والأسد، إلا أن أجندتيهما تلتقيان عند ضرورة تصفية قادة المعارضة المقاتلة في هذه المرحلة، على رغم أن موسكو لم تتخلَّ عن سعيها الى استعادة معظم عسكريي «الجيش الحرّ» لكن بشروطها، ومنها خصوصاً إقصاء فصيلي «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» اللذين حسمت تصنيفهما «إرهابيَّيْن»، وتتصرف إزاءهما على هذا الأساس لإقصائهما عن الجانب العسكري من العملية التفاوضية.
أما بالنسبة الى الأجندة السياسية، فثمة اختلاف غير ظاهر بين مقاربتي موسكو والأسد في ما يخصّ مستقبل هذا الأخير. فمنذ بداية لقاءات فيينا، وكان أولها غداة استدعاء الأسد الى موسكو، لم تكن دمشق مرتاحة الى اتجاه النقاشات التي تبلورت في بيان 14 تشرين الثاني (نوفمبر) ثم في قرار مجلس الأمن، تحديداً في الإشارة الى «عملية انتقالية» والانتخابات بإشراف الأمم المتحدة ومشاركة سوريي الشتات فيها. قبل صدور القرار 2254 وبعده، حاول موفدو النظام الى موسكو إقناعها بتعديلات ولم ينجحوا. وعلى رغم أن أوساط المعارضة تتخوّف من انتخابات تُجرى في ظروف غير مناسبة لها، إلا أن أوساط النظام تتداول قصة/ إشاعة معبرة عن مخاوف مماثلة، مفادها أن استطلاعاً أجراه مكتب الأمن القومي الذي يديره علي المملوك، بيّن أن مرشحي النظام لن يحصلوا على أكثر من 23 في المئة من الأصوات في أي اقتراع بشروط الأمم المتحدة.
غير أن الجدول الزمني الأميركي لبقاء الأسد حتى آذار (مارس) 2017، وفق تسريبة الى وكالة «أسوشييتد برس» لم تنفها واشنطن، أقلق أوساط النظام الذي راجع موفدوه موسكو ولم يعودوا بتطمينات صلبة، ما عنى أن الروس والأميركيين يسعون الى حلٍّ تظهر ملامحه الرئيسية قبل تولّي الرئيس الأميركي المقبل مهماته. لذلك، تبقى التفاهمات الأميركية – الروسية أكثر فاعلية من القرار 2254، إذ تعتمد صيغة وسطاً بين «حكومة وحدة وطنية» و «هيئة حكم انتقالي» لا تريح النظام ولا ترضي المعارضة، بحيث تنقل ثقل السلطة الى موقع رئيس الحكومة الذي قد يُسمّى أيضاً «نائباً للرئيس» لتسهيل تمرير الصلاحيات إليه.
* كاتب وصحافي لبناني