سرّ جاذبية وصفي التل يبدو أكثر إثارة عندما تستمع إلى شخصيات عملت معه ورافقته في مراحل سياسية حسّاسة، وهي ما تزال تتحدث عنه بإثارة وإعجاب، بالرغم من كل العقود التي فصلتنا عن استشهاده!
أحد أبرز هذه الشخصيات هو عدنان أبو عودة؛ السياسي والمفكّر الأردني، الذي كان وزيراً للإعلام في الحكومة العسكرية العام 1970 وحكومة وصفي التالية، وهو الذي عرف وصفي عن قرب. لكنّ قيمة “رواية” أبو عودة تتجاوز كثيراً من الروايات أو القراءات المتأخرة، في أنّنا لسنا أمام سياسي فقط عمل مع وصفي، بل أمام مفكّر ومثقف مطّلع، خاض الحرب الإعلامية الأردنية بجدارة في أدقّ وأخطر مرحلة في تاريخ الأردن. وكان يداعبه وصفي دوماً بأن يربّت على كتفه ويقول له: “أنت تلميذي النجيب”!
جرّنا إلى الحديث المشجون عن وصفي مع مفكّرنا الكبير (أبو عودة) في جلسةٍ خاصة، تعليقنا على افتقارنا إلى رؤساء وزراء يملكون مشروعات وطنية استراتيجية حقيقية، لديهم رؤية متكاملة الأبعاد؛ فأغلبهم يأتي ويذهب لتنفيذ توصيات وأفكار محددة، ذات طابع يومي، قصير المدى، فيما يستعيد أبو عودة ذكرياته ورؤيته لوصفي الذي كان يملك رؤية عميقة يؤمن بها حقّاً، أخذت تنضج بصورة أكبر مع مرور الوقت، حتى وصلت إلى ذروتها في حكومته الأخيرة في مطلع السبعينيات!
يتذكر أبو عودة كيف طُلب منه تقديم تقرير مهم إلى الملك الراحل الحسين حول الدعوة إلى “العصيان المدني” حينها، والذي كان وفق تقديره -بوصفه ضابط المخابرات المسؤول عن التحليل السياسي الذي يرفع للملك- يعني نهاية الدولة. فعندما وصل إلى هناك، أبلغه الملك بتشكيل الحكومة العسكرية، وبموقعه فيها “وزيراً للإعلام”، ثم تركه ليقابل وصفي التل، الذي كان المستشار الأقرب للملك خلال تلك الفترة.
يجلس عدنان مع وصفي يوم الثلاثاء (15 أيلول (سبتمبر) 1970) ليتحدثا عن المهمة المطلوب من عدنان القيام بها. ويخبره وصفي أنّ مهمة الحكومة ليست القضاء على العمل الفدائي، بل استخدام المصطلح العامّي الدارج “نهمر عليهم”، حتى يوقعوا على تفاهمات مع الحكومة لترشيد هذا العمل ووضعه في المسار الصحيح المطلوب لخدمة القضية الفلسطينية، وللضغط على إسرائيل من أجل استعادة الضفة الغربية والقدس.
المهم في هذه الرواية التاريخية، التي تشرح أبعاد رؤية وصفي، أنّه قال لصاحبنا: المصريون فقدوا سيناء ويمكن أن يستعيدوها بأوراق ضغط متعددة، وكذلك حال السوريين. لكنّ نحن في الأردن فقدنا نصف المملكة والقدس، ولا نملك أي أوراق ضغط على إسرائيل، سوى العمل الفدائي الحقيقي الموجّه ضد إسرائيل، وعبر تثوير السكان في الضفة الغربية. لذلك أريد من هذا العمل أن يبقى؛ لكن ضمن رؤية أردنية وطنية واضحة واستراتيجية، وأريد توظيفه بصورة صحيحة سياسياً، عبر تكامل الأدوار بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
هذا هو مشروع وصفي المعروف لدينا، عبر الوثائق التاريخية، وحتى شهادة قادة حركة “فتح” في مذكراتهم الشخصية، وهو الذي عرضه على مؤتمر وزراء الدفاع العرب عشية اغتياله. لكن المهم في شهادة أبو عودة أنّها تقدم لنا صورة عن رئيس وزراء يملك رؤية وموقفا وتصورا شجاعا استراتيجيا.
يتحدث أبو السعيد عن قصص كثيرة في أبعاد هذه الشخصية، لكنّ أكثرها طرافة هو الاجتماع الذي عقده وصفي مع المزارعين ورجال الدولة، وتحدث فيه عن شجون الزراعة. ثم التقى أبو السعيد في اليوم التالي بوالد جعفر الشامي، الذي قال له: “حرثت الأرض بالعرض وليس بالطول، مثلما قال لنا وصفي”. وهذه الجملة بحدّ ذاتها تكشف عن “سرّ العشق” بين وصفي والأردنيين والأرض والوطن، ما جعله قيمة رمزية مع مرور الوقت، بالرغم من الكم الكبير من رؤساء الوزراء الذين جاؤوا بعده!