نكتب عن الحُبّ بوصفه باباً من أبواب النجاة. ندعو الى التسامح والغفران وقبول الآخر المختلف. نغنّي الحرية والتضحية ونكران الذات، فهل الأمر هين ويسير أم دونه سدود وحدود وعقبات، خصوصاً أن النَّفْس أمَّارة بالسوء. فكيف نجعلها أمَّارة بالحب في زمن القتل والقتال وخراب الأرواح والأمكنة؟ هل ظلَّ في القلب نبضُ خيرٍ وجمال في غمرة الأحقاد والضغائن والتصدعات الهائلة في جسد الأمة وفي قلوب الناس؟ هل ما نكتبه مجرد شعر وإنشاء جميل أم أن بذرة الخير الكامنة في النَّفْس الانسانية قابلة للنمو والتفتح لِتزهر جمالاً ومحبة، وتخفّف من غلواء الكائن البشري وميله الى الإفساد في الأرض وسفك الدماء، الى التبجح والتباهي وعشق نرجسة الذات، خصوصاً متى تورمت أناه وتضخمت. الأنا كما الجسد تُصاب بأمراض وأورام خبيثة تودي بصاحبها الى التهلكة، لا ينفع معها علاج بالأشعة ولا بالكيمياء؟
ترويض الأنا ليس مهمة سهلة. لكل منّا أناه يحرص عليها ويداريها، هذه فطرة إنسانية بديهية وطبيعية، المهم ألا يتحول الانسان خادماً عند أناه، يغلبه هواها ويقوده الى حيث لا تُحمد عقباه. روّض الانسان الوحوش والضواري لكنه لم يفلح في ترويض غرائزه وعصبياته. حاولت الأديان وحاولت الفلسفات لكن، ظلت أنا الكائن البشري عصية، ولعلها أكثر تفاقماً في عصر العولمة والانفتاح الاقتصادي. تزايدُ الاستهلاك يعني تزايد الجشع والرغبة بالوصول السريع من دون بذل الجهد اللازم. ثقافة الاستهلاك تضغط بضراوة على الفرد، تحوله محرِكاً لاهثاً ضمن آلة ضخمة تدعى السوق حيث قيم الربح والخسارة هي المرجع والمعيار.
وفق منطق السوق إياه تغدو المظاهر الزائفة مقياساً لقيمة البشر، ولا غرابة الآن، في راهننا المأزوم أن يكون المليارديرات نجوماً تتصدر أخبارهم وصورهم وسائل الاعلام. سقى الله زمناً كان نجومه من عيار جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وجون لينون والبيتلز وبوب مارلي، اليوم تراجع كل ما له علاقة بإعمال العقل وتقدّم كل ما له صلة بالخارج الزائف الزائل، صار النجوم على شاكلة كيم كاردشيان أو ما يعادلها في أنحاءِ كوكبٍ تغرق أجزاء واسعة منه بدماء بنيها أو دموعهم.
جميل جداً أن تكون محبوباً، الأجمل أن تكون محِباً، لكن هل الأمر بهذه السهولة؟ أن تنهض في الصباح ممتلئاً بالحب والتسامح والغفران لمجرد أنك رغبت بذلك (!) قطعاً ليس الأمر على هذا النحو. ما من كائن يخلو من عقد ونوازع وعصبيات، ما من إنسان لا يضمر رغبةً بالثأر والانتقام، ليس بالضرورة من أفراد آخرين، بل من الحياة نفسها، من الظروف والأقدار. النَّفْس لا تسمو من تلقائها، لا تتخلص من شوائبها وأدرانها بكبسة زر أو بنيّة طيبة وحسب. صحيح، أحياناً تكون السريرة الطيبة هبةً من الله، لكن المحبة درجات، الأحرى طبقات، كلما حفرنا طبقة وغصنا في تربتها اكتشفنا طبقة جديدة وما أكثر الطبقات في سبيلنا للعثور على البياض الناصع الأخّاذ.
ثمة ما يُشبه التمارين لترويض الأنا، ما منها معرفة الآخر المختلف أو حتى النظير، قراءته من زاوية أخرى غير زاوية الكراهية والبغضاء أو الادانة والأحكام المسبقة والتنافس المحموم، تذكير الذات يومياً بأن الحياة تتسع للجميع، أو كما يقول الكاتب الفرنسي فيليب كلوديل «فكّرْ فيّ كما أفكّر فيك، فالتفكير في الآخرين يجعلهم موجودين والحروب تعجز أن تُبدّل في هذا شيئاً»، هنا تحضر قصيدة محمود درويش «فكّر بغيرك»، لو فعلنا لَهَانت أمور كثيرة، لَتراجع منسوب الكراهية والأحقاد، ولَعرفت مجتمعاتنا طريقاً الى التناغم والتآلف والتحاور بالحسنى والمعروف عِوَض هذا الجنون الذي يعصف بِنَا فلا يُبقي ولا يذر، ومَن قال إن الجماعات والشعوب والدول ليست كالأفراد تتضخم أناها وتتورم؟ بلى، تفعل. الطامة الكبرى أن أنا الجماعة متى تورمت صارت حروباً وموتاً زؤاماً.
حين كان قيصر روما يطل من شرفة قصره مستعرضاً جيوشه العائدة من حروبها بأهازيج النصر والغلبة كان يحيط به كاهنان يهمسان في أذنيه:memento mori،memento mori أي تذكّر الموت، تذكّر الموت. وذلك كي لا تأخذه نشوة النصر الى حيث لا يجب أن تفعل. هل تنفع الذكرى؟