سقوط “ديمقراطية السياسيين”/ فهد الخيطان

تعطي نتائج الاستطلاع حول تطلعات التونسيين في العام الجديد، والذي نشرت “الغد” تقريرا حوله أمس، مؤشرا حول عمق التحولات في توجهات الرأي العام بعد مرحلة “الربيع العربي” حيال مسائل جوهرية؛ الدولة والديمقراطية، والأمن والرفاه الاقتصادي.

وأعتقد لو أن المؤسسات التي أنجزت الاستطلاع عممت الفكرة على بلدان عربية أخرى، لخلصت إلى النتائج نفسها تقريبا.

77 % من التونسيين يقولون إن “الدولة القوية” هي القوة الوحيدة القادرة على إدارة الشأن العام، وانتشال تونس من الأزمة الهيكلية. وأظهر الاستطلاع أن أغلبية التونسيين يعدون استرجاع هيبة الدولة ومكافحة الجماعات الجهادية وتحسين مستوى المعيشة، أهم أولوياتهم وتطلعاتهم في العام الجديد.

واللافت هو استعداد الأغلبية للتضحية بجزء من حرياتهم في سبيل القضاء على الظاهرة الإرهابية وتوفير الأمن والاستقرار. ويفضل 79 % منهم “توفير لقمة العيش” على الديمقراطية.

وفي مقابل الثقة المرتفعة بمؤسسات الدولة، لا تحوز الأحزاب السياسية على ثقة أكثر من 29 % من التونسيين. رغم ذلك، فإن الأغلبية متمسكة بالديمقراطية كخيار لا بديل عنه للمشاركة في إدارة شؤون الدولة.

لكن أعمق ما في نتائج الاستطلاع تلك الجملة الذهبية التي تلخص فهم الجمهور العربي للديمقراطية، ومفادها أن “ديمقراطية السياسيين” لا تعني الكثير في غياب “الديمقراطية الاجتماعية” واستمرار الفجوة الطبقية “المجحفة” بين فئات المجتمع.

ذلك هو بالضبط مأزق الديمقراطيات الوليدة أو “المتعثرة” في دول ما بعد “الربيع العربي”، التي اختزلت مفهوم الديمقراطية والمشاركة، بصناديق الاقتراع، ولم تتوقف عند المحتوى الاجتماعي الاقتصادي لتحرك الكتلة الشعبية ومطالبتها بالتغيير والإصلاح.

لقد تحول التغيير إلى مجرد صراع على السلطة؛ إذا لم يحسم بالصناديق، فبالبنادق. وفي الحالتين، أخفقت القوى المتصارعة في الحسم، وانفجرت تحت أقدامهم كل الألغام، وتحولت بلدانهم إلى ساحات حرب دموية، وفي أحسن الأحوال عاد الاستبداد بثوب جديد.

ولهذا يظهر جليا؛ ليس في تونس فقط، انهيار مكانة الأحزاب في عيون شعوبها، لا بل وحنين قطاعات واسعة لزمن الحكم السابق، بكل ما فيه من انتهاك للكرامات والحريات، وغياب المشاركة.

لكن العنصر الإيجابي في تطلعات الشعوب حاليا، هو إدراكها لأهمية الدولة ومؤسساتها في حياتهم، بوصفها مفتاح الخلاص من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار. وأي دولة؟ هي بالتحديد الدولة الديمقراطية “الاجتماعية” التي تراعي مصالح الناس، وتسعى إلى تحسين مستوى معيشتهم، أو على الأقل وقف التدهور الحاصل؛ لا دولة تتصارع فيها الأحزاب على مكاسب في الحكم، وحصة في البرلمان.

وقد أكدت تجربة تونس نفسها، على ما فيها من مخاطر وتهديدات، أن التحول الديمقراطي على قاعدة التوافق، وبما ينطوي عليه من تنازلات أحيانا، هو أفضل الخيارات لبلداننا. وأن المرحلة الانتقالية مهما طالت وتشعبت، أقل كلفة بكثير من التغيير الثوري والعنف. الأول يحفظ الدولة ويعيد تطوير وتطويع مؤسساتها بشكل متدرج لتحقيق تطلعات المواطنين، والثاني يهدم ويقوض أسس الكيانات، ويضعها في مهب الريح، والأمثلة من حولنا ظاهرة للعيان.

لقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية ديمقراطيات فارغة من مضمونها، لم تفلح صناديق الاقتراع في منحها الشرعية الشعبية، فدخلت في صدام مع الجماهير، فكانت لحظة الانقضاض عليها.

يتعين على الأحزاب العربية الساعية إلى السلطة، أو تلك التي فقدتها، أن تراجع التجربة المريرة، وتعيد تعريف أولوياتها، لتلتقي مع الجماهير على الأهداف، لا في صناديق الاقتراع فقط.

Related posts

الكنيست الإسرائيلي يصدر سلسلة من القرارات العنصرية الجائره بحق الفلسطينيين* عمران الخطيب

السمهوري: ما حدث في إمستردام من هتافات وتحريض على القتل… جريمة تحريض ودعم لحرب الإبادة التي تشنها اسرائيل

عيوب ومثالب في (دراسات حول المناهج المُطوّرة)* الدكتور هايل الداوود