إذا صدقت النوايا وانحسر التقاعس، قد ينتهي هذا العام باتفاق محلي وإقليمي ودولي على وقف النزيف والإستنزاف في اليمن وليبيا وسورية تحت رعاية دولية وعبر مبعوثي الأمم المتحدة الذين أصبحوا عربة أساسية في قطار استراتيجيات الخروج من الأزمات والصراعات. الديبلوماسية الناجحة تبدأ باتقان فن المستطاع، كما يقال، لكنها مهددة بأن تنتهي فاشلة إذا اعتمدت تكتيك ترحيل الخلافات الجذرية كاستراتيجية دائمة في «عملية» السعي وراء الحلول. فهذا يصبح تكريساً لأمر واقع تلو الآخر على حساب المبادئ والحلول الجدية وتصبح «العملية» مخدّراً يحل مكان الزخم لدى ولادتها. هذا ما آلت اليه «عملية السلام للشرق الأوسط» حيث لا إنهاء لإحتلال، ولا مجال لحل الدولتين الذي تبنته الأسرة الدولية بإجماع، ولا اعتراض جدياً على استمرار اسرائيل بتشييد المستوطنات غير الشرعية. وما يحدث في إطار «عملية فيينا» لسورية يذكّر بالحماس الذي رافق ولادة عملية السلام الفلسطينية – الاسرائيلية في مدريد، والبقية تاريخ. وقف الصراع الدموي والنزيف القاتل في سورية أولوية، بلا شك، و «عملية فيينا» التي تتوقف في نيويورك اليوم الجمعة في اجتماع ثالث لـ 19 دولة على مستوى وزراء الخارجية هو، بالتأكيد، استثمار ضروري في التسوية السياسية وفي الديبلوماسية. مهم جلوس السعودية وإيران الى طاولة واحدة، وكذلك تركيا وروسيا معاً بالرغم من الخلافات العميقة والتصعيد الأخير بين موسكو وأنقرة. ترحيل البحث في مصير بشار الأسد مع انتهاء العملية السياسية الانتقالية قد يكون ضرورياً على أساس ان الأسد، منطقياً، لن يبقى في الرئاسة في نهاية المطاف، لكن سورية لا تتحمل إطالة مأساتها الإنسانية التي بدأت قبل خمس سنوات فيما الدول الكبرى تتنازع على غارات جوية ضد «داعش» من دون أية خطة لكيفية حماية المدنيين تحت سيطرة «داعش» بدلاً من تحويلهم الى ضرر لا بد منه في استراتيجية التهرب من وضع جنودهم في ساحة الحرب العالمية على هذا التنظيم الإرهابي. قتل الآلاف وتشريدهم تحت عنوان القضاء على «داعش» يبدو اليوم ضرراً لا بد منه بتشريع دولي، وهذا خطأ كبير يجب عدم ترحيل التنبه له. ذلك ان اجراءات وقف النار التي تعدّها الأمم المتحدة تستثني المناطق التي يسيطر عليها «داعش» و «جبهة النصرة» وحلفاؤهما حيث يُفتَرض أن يقوم تحالف دولي بقصفها جوّاً من دون استراتيجية تأمينها برّاً. المبادرة السعودية الى انشاء تحالف من الدول العربية والإسلامية مهمة جداً إذا أدت الى انشاء قوة برية من هذه الدول تقوم بدور القوات الميدانية المكمّلة لغارات التحالف الدولي. ولأن مأساة التشريد ستتعاظم أثناء شن حرب القضاء على «داعش»، حان الوقت للإصرار الجدي على إنشاء مناطق انسانية أمنية بدلاً من المضي في ترحيل هذا الاقتراح الى حين آخر. كلا الأمرين، القوة الميدانية المسلمة والعربية وإنشاء مناطق إنسانية آمنة، يتطلبان الكف عن ترحيل مسألة الميليشيات التابعة لإيران ودورها في الساحة السورية. وهذا بدوره يتحدى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا الى إجراء حديث جدي مع إيران حول المسألة السورية بدلاً من ترحيل هذا الحديث مع شرعنة الانتهاكات الإيرانية للقرارات الدولية حفاظاً على الاتفاق النووي معها.
هذا الأسبوع، جرت في مجلس الأمن مناقشة حول القرار 1737 الذي يحظر على إيران أي تواجد عسكري، عبر مستشارين أو ميليشيات أو سلاح أو ذخيرة، خارج حدودها. الولايات المتحدة وبريطانيا أكدتا حدوث انتهاكات لذلك القرار الذي تبناه مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق لكنهما اكتفتا بالانتقادات اللفظية واختبأتا وراء إصرار روسيا والصين على حماية إيران من المحاسبة. وحتى عندما أجرت إيران اختباراً محظوراً يتعلق بالصوارخ الباليستية، حرصت واشنطن على لملمة المسألة كي لا يتلقاها الجمهوريون في الكونغرس، ومرت مرور الكرام على ذلك الانتهاك للاتفاق النووي نفسه. كذلك الأمر عندما تم اثبات قيام ايران بجهود تصنيع السلاح النووي تكذيباً لادعاءاتها، لملمت واشنطن ذلك الخبر الضخم واعتبرته عابراً لأن الاتفاق النووي أضخم.
الرئيس الإيراني حسن روحاني أصاب حقاً عندما وصف اغلاق ملف تاريخ ايران النووي بأنه «انتصار سياسي» ضخم لطهران. فلقد دفع العراق ثمناً غالياً لأن ما طالبت به الولايات المتحدة والأسرة الدولية كان تماماً عكس ما قدمته الى إيران على طبق من ذهب. فالعراق كان مطالباً بإثيات تدميره للأسلحة البيولوجية بعدما دمرها ليخفي تصنيعه لها، هذا بعدما تم تجريده حقاً من السلاح المحظور على أيدي الأمم المتحدة وعبر العمليات العسكرية الأميركية..
المرشحون الجمهوريون للرئاسة الأميركية تنافسوا في المناظرة الأخيرة على تحميل الرئيس باراك أوباما مسؤولية اعفاء ايران من المحاسبة، والتسرع الى الاتفاق النووي معها، لكنهم غضوا النظر جماعياً عن دور الرئيس جورج دبليو بوش في استدعاء الإرهاب الى العراق وقيامه بحل الجيش العراقي ما ساهم جذرياً في نشوء «داعش».
اللافت ان «داعش» كان نجم المناظرة التي سوّقته عدوّاً رهيباً يهدد الأمن القومي الأميركي. تحدث المرشحون عن «تغيير الأنظمة» في المنطقة العربية بدءاً بـ «الربيع العربي» وليس بدءاً بحرب جورج دبليو بوش لإسقاط صدام حسين. اختلفوا حول ما إذا كان قطار تغيير الأنظمة – بعد حسني مبارك في مصر، وزين العابدين في تونس، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبدالله صالح في اليمن – يجب أن يتوقف عند بشار الأسد في سورية لأنه، بحسب بعضهم ضروري للقضاء على «داعش»، وبحسب بعضهم الآخر، لأن رحيله ضروري للقضاء على «داعش».
بعضهم تطرق الى دور الولايات المتحدة في تنمية الصراع السنّي – الشيعي، فحض جزء على الشراكة مع طهران والأسد وموسكو كأولوية، واعترض البعض الآخر معتبراً أن تلك الشراكة هي التي تعطّل الشراكة الضرورية مع السنّة للقضاء على التطرف السنّي وعلى الراديكالية الإسلامية، السنّية منها والشيعية.
هذا النقاش في مناظرة المرشحين للرئاسة ليس اعتيادياً لأن الشعب الأميركي، عامة، لا يريد أن يستمع اليه ولا هو راغب في أن يتعرف الى تاريخ الأدوار الأميركية في صنع الراديكالية. ومن هذه الناحية، كانت المناظرة مفيدة لأنها فرضت على الطاولة مسائل مثل الراديكالية الشيعية التي ترعاها ايران والراديكالية السنية التي تتطلب جدية محاربتها من الدول العربية وتركيا بإجراءات على الأرض وبمساهمة ميدانية عبر قوات عربية واسلامية في الحرب على «داعش».
المبادرة السعودية لإنشاء تحالف من دول عربية واسلامية يتكون حالياً من 35 دولة ستشق طريقها الى اجتماع «عملية فيينا» في نيويورك وسيكون التركيز على تفاصيل تشكيل قوة ميدانية تكون، عملياً، جيش التحالف الدولي الذي يشن الغارات. انما التعقيدات كبيرة جداً وليس واضحاً كيف ستتعاطى روسيا مع مثل هذا التطور سيما إذا كانت تركيا جزءاً منه.
المفيد في المبادرة السعودية انها طرحت تواجداً عربياً في الساحة السورية بدلاً من ترك الساحة مفتوحة لتركيا وايران. المفيد انها تأتي في الوقت الذي تُطلق الانتقادات للغياب العربي، بالذات السنّي، عن محاربة التطرف السنّي بقوات عربية. المهم، ان تكون هناك جدية لدى الدول العربية والدول الإسلامية لجهة تشكيل قوة ميدانية لمحاربة «داعش» ضمن تحالف دولي وعلى أساس استراتيجية واضحة ومتكاملة. وهذا ليس موجوداً بعد.
المساعي السعودية لتعريف من هي الفصائل السورية المعارضة ستتواجد على طاولة فيينا في نيويورك. وكذلك المساعي الأردنية لتعريف مَن هم الإرهابيون في سورية. هذان العنصران تم الاتفاق عليهما في الجولة الثانية من عملية فيينا، وهما رهن الاختبار في جولة نيويورك سيما وان روسيا تتحفظ على استنتاجات اجتماعات الرياض في شأن تعريف المعارضة السورية.
لكن روسيا في حاجة الى التنازل لأنها في حاجة الى استراتيجية خروج من مغامرتها العسكرية المكلفة لها في سورية. لن يتنازل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسهولة لأنه عنيد في اصراره على الانتصار. فهو وجد تهاوناً أميركياً معه في شأن توجيه غاراته على المعارضة السورية، وليس على «داعش»، بهدف تحصين نظام الأسد. وهو عازم على منع تركيا من تسجيل النقاط على حسابه. لكنه، في الوقت ذاته، في حاجة الى استراتيجية خروج من الورطة السورية. وهنا، قد يجد بوتين في المساعي السعودية والأردنية عربة للخروج من الورطة – انما بشروط.
ادارة أوباما حريصة بدورها على عدم التورط الروسي هناك يضمن لها الامتناع عن الانزلاق الى المستنقع السوري. لذلك لا تعارضه. لذلك، لا تمانع في الارتخاء في مسألة مصير بشار الأسد في العملية الانتقالية وفي مسألة الدور الإيراني في سورية. إدارة أوباما تريد أمرين أساسيين هما: عدم التورط في سورية، والحفاظ على الاتفاق النووي مع ايران. وهي ترى ان روسيا مهمة لها في تحقيق الأمرين. لذلك تغض النظر عن التجاوزات.
إلا ان الانتخابات الرئاسية قد تفرض على ادارة أوباما القليل من التأقلم بدلاً من التصلّب الذي يميزها. وهذه فرصة للدول العربية لصياغة استراتيجية واضحة لما تريده لسورية ولما هي على استعداد لتقديمه لإنهاء المأساة السورية. السعودية وافقت على الجلوس الى الطاولة مع ايران وهي تتقدم بمبادرات. هذا جديد يتطلب الايضاح والوضوح في معالم الاستراتيجية وأهدافها وكيفية تنفيذها.
أما الأمم المتحدة التي يقوم مبعوثها ستيفان دي ميستورا بدور مهندس الاتفاقات، فعليها ان تتنبه الى أنماط ترحيل المبادئ الأساسية التي يُفتَرض ان تصونها مثل حماية المدنيين دوماً وليس ترحيل هذا الأمر الضروري انسياقاً وراء أولوية الحرب على «داعش». عليها ألاّ تتنكر لمبدأ المحاسبة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بغض النظر ان ارتكبها تنظيم إرهابي أو حكومة. عليها ان تعترض على شرعنة انتهاكات قرارات دولية صدرت بموجب الفصل السابع من الميثاق تحت ذريعة أولوية سحق «داعش». وعليها ألا تتورط في عملية الترحيل بحجة ان تلك هي فنون الديبلوماسية.