«وُلِدَت اللغة العربية في غاية الكمال كأنها بلا طفولة ولا شيخوخة».
(أرنست رينان)
واحدة من أجمل لغات الأرض، مرنة مطواعة تغدو بين يدي المتمكن منها عجينة يشكّل بها ما شاء من معانٍ ورموز، القابض على أسرارها لا يمكنه الا أن يكون عاشقاً متيماً بها كأنها حسناء تتهادى تيهاً ودلالاً عارفةً مكانتها ومقامها، وإن تمنعت فعلى غنجٍ ودلال حتى بات سهلها الممتنع من أجمل ما يكون وأشهاه. ولئن اعتراها بَعضُ شحوبٍ وانحناء فليست العلّة فيها وهي قليلةُ حروف العلّة أصلاً، بل في أهلها الذين تكاثرت علّاتهم يعاملونها كيتيمة على موائد لئام، وفي أبنائها الذين ينظرون إليها بِدونية مقيتة وكأنها عالة عليهم لا عِلَّة كيانهم وعنوان وجودهم على قيد الأمم والحياة، غير مدركين أنهم من دونها يغدون كائنات هجينة مثل تلك الكائنات «المستنسخة» في أسواق العولمة الاستهلاكية.
واجب المرء إتقان لغات أجنبية، وكلما عرف لغة جديدة أضاف إنساناً الى إنسانه، لكن ما جدوى أن تربح العالم وتخسر نفسك؟ هذا حال من يتخلى عن لغته الأم. «اللغة الأم»، هل أجمل من إضفاء معاني الأمومة على اللغة. لنفهم أكثر المصطلح ودلالاته يمكننا طرح السؤال على الذين اغتربوا عن لغاتهم واضطروا للكتابة بلغات أخرى، سوف نسمع مشاعر وأفكاراً مماثلة لتلك التي يعيشها المغتربون عن أمهاتهم. نعم، اللغة قادرة على إحاطتنا بنوع من الحنان الرحمي باعثِ الدفء والحرارة والشعور بالانتماء، ولئن كان حبل السرّة بين الأمّ ومولودها يجب أن يُقطع ليعيش الإثنان فإن حبل اللغة متى انقطع صار الكائن هجيناً غريب اللسان، لذا نردد دائماً أن من الممتع جداً فكّ شيفرات اللغات الأخرى والتعرف على ثقافات أهلها بلسانهم، لكن إياك أن تخسر لسانك.
ليست اللغة مجرد أداة للتخاطب والتواصل بين البشر وتصريف شؤون عيشهم، لو كانت فقط كذلك لَبقِيَت رموزاً وإشارات كما كان حالها زمن الكهوف والمغاور (المفارقة أنها تعود كذلك في كهوف التكنولوجيا حيث تبدو لغة مواقع التواصل عند كثيرين وقد عادت رموزاً وإشارات)، وليست أيضاً مجرد حامل هوية، إنها صانع هوية أو على الأقل شريك أساس في تكوِّن الهوية وتشكِّلها، وبمقدار ما هي جزء من كينونة الهوية هي في الوقت ذاته جزء من صيرورتها، تتماهى وتتماثل بحال أهلها، الأمم الحية تنتج لغات حية تنتشر وتَشيع حتى على ألسنة الأمم الأخرى، أما الأمم الجامدة المتكلسة فإن حالها يرخي بظلاله على لغاتها حتى تصفّر وتيبس وتتساقط كأوراق خريف، لسنا نبالغ في ما نذهب اليه اذ ثمة لغات كثيرة انقرضت وصارت في المتاحف أو في خبر كان، ولو لم تكن العربية ضاربة بجذورها في تربة عميقة لأصابها ما أصاب سواها، والحال أنها الآن ليست في أفضل حالاتها بفعل عدم إدراك شرائح واسعة من أبنائها أهمية رعايتها وصيانتها وتجديدها، فاللغة أشبه بنبتة حية تحتاج ماء وسماداً وتشذيباً ورعاية دائمة، والبرهان ما تفعله مجاميع اللغات في العالم كله من اعتماد مئات المفردات الجديدة كل عام.
ربط اللغة بالهوية قد لا يُرضي «المتعولمين» الداعين بذريعة العولمة الى التحرر من مفاهيم «بائدة» مثل اللغة والقومية والوطن(!)، ولهؤلاء يجوز القول إليكم الألمان والروس واليابانيين وسواهم من أمم، هل نحن أكثر إسهاماً منهم في العولمة؟ لماذا تحافظ أمم الأرض قاطبة على لغاتها فيما المطلوب منا أن نفعل العكس، أن نتخلى عن لغة تمثل «روح الأمة» وفق ساطع الحصري، فيما يراها المستشرق الفرنسي جاك بيرك «أشدّ القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب (…) وحالت دون ذوبان المغرب العربي في فرنسا» («الفصحى لغة القرآن» لأنور الجندي).
«وُلِدَت في غاية الكمال» أي أنها ناضجة لا تعرف تجاعيد ولا انحناء، اللهم الا اذا انصرف عنها أهلوها وتركوها في عراء الأيام. لِعربيتنا ميزات لا تتسع لها أسطر وعجالات منها قوة التعبير حتى عن أدقّ خلجات النَّفْس حيث لكل حال مفردة تقولها، بل لكل رتبة من مراتب الحال ما يعادلها لغوياً وهذا نادر في عُرف اللغات وقواميسها.
اللغة ليست كلاماً أو صرفاً ونحواً وبياناً، اللغة إكسير حياة.