سيسأل كثيرون، وأنا معهم، ما الذي يحول دون تحويل مصفوفة المفاهيم هذه إلى أسس للعملية التربوية والتعليمية في مدارسنا؟ كيف لنا أن نغرس الإيمان بها في قلوب الطلبة والمعلمين، ونجعلها تسري في صفحات مناهجنا الدراسية؟
أعني تلك القيم العظيمة التي خاطبت فيها الملكة رانيا العبدالله المعلمين المكرمين بجوائز التميز أول من أمس: قيم التعددية والحوار وقبول الآخر، “قيم تساعدهم على العيش، لا قيما تعزلهم فيعيشون في خوف من الآخر”. قيم الإيمان بالمستقبل والحياة، فـ”العقول التي يتملكها الخوف لا تتسع للأحلام”، مثلما قالت جلالتها. قيم تحصن “أجيالنا وتنشئهم على القيم التي توارثها الأردنيون أبا عن جد؛ على التعددية والحوار. وأن يتنفسوا الانتماء للأردن ووحدته كل يوم وكل صباح مع تحية العلم؛ ومع تحيتهم لزملائهم في الفصل، فتنبض قلوبهم مواطنة”، لمواجهة ثقافة الكراهية والموت، و”تحديات لم تمر على أوطاننا من قبل”.
لقد عصفت التحولات الجارية في المنطقة والعالم بقيمنا المتوارثة. ولم ندرك إلا متأخرين أن منظومتنا التعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية باتت متخلفة عن مواكبة التحديات، ومجاراة التغيرات الهائلة وثورة المعرفة.
والفجوة في اتساع مطرد، ومن بين مساماتها تتسلل ثقافة التطرف والخوف والكراهية لقلوب وعقول الأجيال الجديدة، وتتحول بفضل “الميديا” ووسائل التواصل الاجتماعي والتيار العريض المهيمن في المؤسسات التعليمية، إلى ثقافة سائدة وقيم عامة.
سنوات التردد والسياسات البيروقراطية المتكلسة أصابتنا في مقتل؛ الإصلاح التربوي والتعليمي والثقافي والديني يراوح مكانه.
كان بادياً على الملكة وهي تخاطب الحضور في حفل التكريم، حرارة إيمانها بهذه القيم، ومدى إدراكها لهول الواقع، وضعف مستويات الاستجابة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي نسمعها تتحدث بنبرة متحسرة، من دون أن يفارقها الأمل بالتغيير المنشود.
لكن أشعر بالأسف للقول إن ثمة فجوة كبيرة بين خطاب الأمل والواقع، وكأن ما يقال يقع على آذان صماء، لا تسمع عما ما يدور حولها، ولا ترى علامات الخوف والكراهية في الخطاب السائد وسلوك الشباب وحياتهم.
لا المؤسسات الرسمية تشعر بالمأزق، ولا الهيئات المدنية؛ نقابة معلمين تعرف واجبها. الأطراف كلها غارقة في مناكفات صغيرة، وصراعات ضيقة، وحسابات فئوية ومطلبية. كلهم أسرى الواقع السائد، ولا رغبة تحركهم للتغيير.
إن الأسوأ من كل ما قيل هو الاستسلام للحالة السائدة، والشعور بالعجز، والتكيف مع القيم الطارئة والمهيمنة، رغم إدراك الأغلبية لخطورتها على المجتمع. نلمس هذه الروحية كثيرا؛ من معلمين ومعلمات وطلبة وتربويين، وساسة يصنعون القرار. شكوى لا تنقطع من سوء الأوضاع وتدهور القيم وسيادة مفاهيم متطرفة، من دون قدرة على وقف الانجراف معها.
ويفاقم الحالة، فقدان الأمل عند السواد الكبير من المربين والمعلمين، وانقطاعهم عن خطاب الدولة، لا بل ومعاندة تيار منهم لثقافة التغيير والإصلاح. وما الظاهر من تدهور في العلاقة بين المعلم والطالب إلا مقطع صغير من صورة مؤلمة ومليئة بالتشوهات.
تحتاج مؤسساتنا التعليمية اليوم إلى ما يمكن أن نطلق عليه وصف “القوة الطليعية”؛ معلمون ومعلمات ومشرفون ومديرو مدارس يؤمنون بتلك القيم التي تحدثت عنها الملكة، ويعملون على نشرها بين أقرانهم، وحشد الدعم لها في كل مدرسة وصف، ويضغطون بقوة لتحويلها إلى سياسات وبرامج عمل ومناهج.
حضر حفل التكريم، كما جاء في التقرير الصحفي، ألف معلم. عسى أن يكون هؤلاء نواةً طليعية لمشروع إصلاح المنظومة التعليمية.