لم يعد نوري المالكي رئيساً للوزراء في العراق. ولم يعد إسقاط نظام بشار الأسد في صدارة الأولويات. الجيش الروسي يرابط في الساحل السوري وطائراته تواصل غاراتها. عادت المقاتلات الأميركية إلى أجواء العراق وسورية مع حفنة من القوات الخاصة. فرنسوا هولاند يطل على المنطقة من على ظهر حاملة الطائرات شارل ديغول المتمركزة قبالة السواحل السورية. وديفيد كامرون انتزع موافقة مجلس العموم وأرسل الطائرات إلى الحرب المفتوحة. فلاديمير بوتين يهدد رجب طيب أردوغان وواشنطن تطالب أنقرة بإغلاق حدودها مع سورية. نجح تنظيم إرهابي في تغيير المشهدين الإقليمي والدولي ومعهما مصائر مجموعات وإفراد.
العالم خائف. بصمات «داعش» في كل مكان. يضرب هنا ويضرب هناك. في عدن. وكاليفورنيا. وباريس. وقبلها في الكويت. والسعودية. وتونس. وليبيا. يضرب بلا رحمة. لا خطوط حمراً ولا حرمات. قد يكون الهدف مطعماً أو مستشفى أو مسجداً أو مجلس عزاء.
أجهزة الأمن حائرة ومرتبكة. اختراق «داعش» ليس مريحاً. العقاب شديد. السكين جاهز وتكفي الشبهة لتحريكه. و «داعش» يحب الإعدامات. يخاطب العالم بالرؤوس المقطوعة. وأخطر من المجموعات المنظمة الذئاب المتوحدة أو المنفلتة. ويمكن أن يكون الذئب بلا ماض. ولا شبهات سابقة حوله. ولا معلومات عنه لدى أجهزة الأمن. لهذا، يصعب اعتراض الذئب قبل أن ينقض على فريسته.
هذا فظيع فعلاً. «داعش» أخطر من «القاعدة». أبو بكر البغدادي أخطر من أسامة بن لادن. جاذبية «داعش» أكبر بكثير من جاذبية تنظيم الظواهري. لا ضرورة للاتصال الهاتفي أو ما يمكن رصده. يكفي الذهاب إلى مغاور الإنترنت أو «اليوتيوب». شاب صغير متزمت ومتوتر يسقط في شرك شريط عممه التنظيم. أحياناً يتحول المشاهد الصغير ذئباً. تأخذه رغبة الاصطدام بالعالم. والانفجار بالكفار. وركوب القطار السريع إلى الجنة.
هذا فظيع فعلاً. وشديد الخطورة على الجاليات العربية والإسلامية في الغرب. تكرار الهجمات ينذر بإيقاظ الشكوك. والنظر إلى الجاليات بوصفها مناجم محتملة للذئاب. والطعن في ولائها للبلدان التي استضافتها. والطعن في إمكان التعايش معها. والنظر إلى الجار العربي والمسلم كأنه مشروع حزام ناسف. هذا يعني إشعال خطوط التماس بين الأديان والمذاهب. وداخل الدول وعلى حدودها. هذا كان الهدف الكبير من «غزوتي نيويورك وواشنطن»، والذي تنذر غزوات «داعش» الحالية بتحقيقه.
يراودني شعور بأن العالم ارتكب جريمة مروعة يدفع الآن ثمنها. إنها جريمة الانتظار. أقول ذلك استناداً إلى كلام سمعته. شاءت المصادفة أن أكون على موعد في باريس في العاشر من حزيران (يونيو) 2014. قبل ذهابي إلى الموعد فتحت قناة «العربية» فوجدتها تبث أنباء عاجلة عن دخول «داعش» إلى الموصل. صافحت مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان فوجدت في وجهه مزيجاً من التجهم والغضب. كان يتلقى التقارير عن انهيار وحدات الجيش العراقي واستيلاء «داعش» على ترسانة ضخمة من الأسلحة.
أمضينا ساعات نتابع الأخبار وما يتلقاه من تقارير. قال بألم: «كنا نعتقد أن مرحلة الحروب انتهت. لكن قدرنا صعب في هذه المنطقة. لن نستطيع التعايش مع هؤلاء الوحوش على حدود إقليم كردستان. أخشى أننا سنغرق في حرب مريرة وطويلة مكلفة للعراق وسورية وربما للمنطقة».
كان بارزاني غاضباً من المالكي، لكنه لم يشأ أن يفتح النار عليه. سألته فحكى. قال إن تقارير البيشمركة أشارت إلى أن إرهابيي «داعش» يحاولون تعزيز وجودهم قرب الموصل ويقومون بتدريبات هناك. وإنه حمّل السيد عمار الحكيم رسالة في هذا الشأن إلى المالكي. ثم حمل الرسالة نفسها إلى نائب رئيس الوزراء روز نوري الشاويش وفي النهاية إلى السفير الأميركي آنذاك ستيف بيكروفت. وفي الرسائل، اقترح بارزاني قيام الجيش العراقي والبيشمركة بعمل مشترك لضمان سلامة الموصل وإبعاد «داعش» من محيطها. لم يهتم المالكي.
في بداية 2014، اتصل بارزاني بالمالكي: «أخي أبو إسراء الوضع خطر في الموصل. فلنقم بعملية مشتركة. لا يجوز أن أرسل البيشمركة وحدها. الموضوع يثير حساسيات بين الأكراد والعرب… نحن على استعداد لتحمل العبء الأكبر، لكن فلتكن العملية مشتركة. أجابني: أخي أبو مسرور أنت دير بالك على الإقليم ولا تقلق خارجه فالوضع تحت السيطرة».
الخطر على الموصل لم يكن سراً. الجانبان العراقي والأميركي كانا على علم بمضمون تقارير البيشمركة. هكذا حصل ما حصل. وأتيح لـ «داعش» أن يعلن «دولته». وأن يستقطب الوافدين من كل أنحاء الأرض. وأن يبث أفلامه ويروج سمومه. وقعت جهات كثيرة في وهم الرقص مع «داعش» وتوهمت توظيفه لالتهام المعارضة السورية أو النظام أو الأكراد. ارتكب العالم جريمة الانتظار وها هو يدفع ثمن الوافدين من مناجم الذئاب.