في الوقت، الذي نعد لانتخابات نيابية مفصلية، على طريق الإصلاح والتحول الديمقراطي، وعلى طريق إعادة الثقة في العملية الانتخابية ونزاهتها، وفي صدق التأكيدات الحكومية، بأنها ستكون بالفعل نزيهة وشفافة، في هذا الوقت يضرب الإرهاب بقسوة وعنف شديدين، انحاء كثيرة في العالم، كان آخرها، وليس اخيرها، احداث باريس الموجعة، واسقاط الطائرة الروسية، وهي بالنسبة لأوروبا ولفرنسا احداث تعادل خطورة وأهمية تدمير البرجين في نيويورك في 11 سبتمبر. وسيذكر التاريخ ان كليهما سيكونان حدثين حاسمين في تاريخ العالم.
واصبح “داعش” والتطرف الديني عاملاً رئيسياً في خلق عداوات واسعة النطاق، بين الديانات والحضارات والشعوب. ومن المنطقي الافتراض بأن اليمين المتشدد في أوروبا، سوف يحرز نجاحات سياسية بعد هذه الاحداث، وبذلك سيتواجه اليمين المتشدد في الغرب، مع التعصب الديني في الشرق، وعندها ستكبر كرة ثلج العداء، وستجرف امامها معاني وعلاقات إنسانية وحضارية راسخة. ولغاية اليوم لم تستطع كل جهود الدول والمؤسسات ايقاف هذا التمدد الوحشي، غير المتوقع (أو على الاقل هكذا ادعت تلك الدول والقوى). وبقي تحرك الإرهاب والإرهابيين أسرع من جهد الدول والاجهزة الأمنية في مقاومة الارهاب والقضاء عليه.
نحن في الأردن، والحمد لله، ما زلنا في منأى عن هذه الاوضاع، لكن (ما انا إلا من غزيه). فنحن ابناء هذه المنطقة، لا بل نحن في قلبها، نتأثر بمجرى احداثها، الامر الذي دعا الأردن لزيادة مساهمته في ضرب الإرهاب، و”داعش” تحديداً. فأصبحنا في عين العاصفة.
لقد تغلب الأردن عبر تاريخه على عشرات العقبات، وربما المؤامرات، التي حيكت ضده منذ ان كان امارة العام 1921 وحتى يومنا هذا. وبفضل وعي الشعب والترابط العضوي بينه وبين قيادته، تمكن الأردن من النجاة مما احاق بدول الربيع العربي، تلك التي خضعت اما لتحولات جذرية في النظم السياسية، أو تلك التي ما تزال تنخرط في حروب داخلية بين قوى الشعب المتصارعة، فيما بينها، أو بين قوى الشعب والنظم القائمة. وهذا الترابط العضوي يجب ان يبقى موجوداً وراسخاً حتى تبقى القافلة تسير بهدوء وبتخطيط.
لكن المنطقة تعيش ظروفاً سياسية واجتماعية لم نشهد مثلها، منذ قرون طويلة، فعنوان هذه الحقبة، التطرف والإرهاب والقتل والتدمير والانقسامات الاثنية والطائفية والقومية. ونشهد انهيار النظام العربي، ومنظومة العمل العربي المشترك. كما اصبح العدو -سواء من داخلنا أو خارجنا- يستفرد بنا بلداً بلداً. ولا اظن ان امة اخرى في العالم، ظهرت فيها كل هذه الازمات، أو عانت من كل هذه الاحداث في حقبة واحدة.
ان نجاة الأردن من عواصف الربيع العربي لم تكن وليدة الصدفة. فقد كانت استجابة الدولة والنظام لشروط تلك التحولات سريعة الى حد ما، وكان وعي الأردنيين يسبق بكثير تلك التحولات، التي لم ترض طموحاته، لكنها في المقابل عززت قناعاته بأن الخلاف ليس على النظام أو معه، وانما على سياسات يمكن اصلاحها، وعلى مسؤولين فاتهم الزمن والحدث، وعلى (سيستم) تراجع اداؤه وترهل. ونجا الشعب والنظام معا مما كان يمكن الوقوع فيه، من مخاطر أو انزلاقات، لن يكون مصيرها بأفضل مما آلت اليه انظمة ودول عربية اخرى، بدت قبل الربيع العربي أكثر من راسخة، حتى اذا ما بدأت رياح التغيير تهب عليها، انهارت وتلاشت.
السفينة الأردنية الناجية من امواج وعواصف انهيار النظام العربي، منحت الأردن مكانة قي الاقليم والعالم، فقد تحول الأردن إلى قدوة حقيقية في العلاج، وبدت العيادة (الروشيتة) السياسية الأردنية، وكأنها مسطرة مستقيمة، يمكن تطبيقها اقليمياً على دول وانظمة شبيهة بنظامنا ونموذجنا الوطني الأردني.
نحن نتمتع الآن بمكانة جيدة، ليس بسبب الحكمة والاعتدال فقط، وانما لكوننا قدمنا تجربة فريدة للمنطقة وللعالم، تمثلت بالدرجة الأولى بقناعة شعبية واسعة النطاق، اعتمدت على قاعدة المصلحة الحياتية والوجودية لكل من الشعب والقيادة، ومن هنا اصبح الشعب الأردني لا يؤمن بغير النظام السياسي بديلاً. كما ان النظام السياسي نفسه توافق مع مطالب شعبه وناسه، وهو ما يجعل الاصلاح مطلباً وطنياً جامعاً، وعجل بوتيرة الإنجاز.
بالرغم من كل تلك المنجزات، علينا أن نعترف بكل جرأة وثقة، ان جوانب كثيرة من المجتمع الأردني اصبحت موبوءة بممارسات فوضوية أو عدوانية، معظمها يمر بدون انتباه أو ملاحظة، وبعضها يتم التعتيم عليه، وبعضها نجد له تفسيرات ساذجة وبعيدة عن الواقع. وبكل وضوح، اقول بان المجتمع الأردني قد تغير، وان الهوة بين الاجيال اصبحت واسعة، وكذلك بين المواطن والمسؤول. ان الشباب الأردني في أزمة خانقة، أزمة انتماء وهوية، والفقر والبطالة هما العاملان الرئيسيان في خلق هذا الوضع. الفقر يدمر المجتمعات والقيم. ودعاة التطرف والتشدد تتقوى بهذه الاحوال والاوضاع، والأردن ليس استثناء.
في ظل هذه المعطيات يبرز عند الأردنيين جميعاً السؤال الوطني والمستقبلي، عما يمكن ان نفعله كخطوات عملية لتجاوز حزمة التحديات والاجتهادات والسياسات التي مررنا بها خلال السنوات العشر الماضية، والتي قادتنا الى هذا الوضع الأردني الفريد من نوعه: اعجاب عالمي واسع بالدور الذي يقوم به الأردن، وبالحنكة السياسية والدبلوماسية التي يتمتع بها ويمارسها، وبين الوضع الداخلي المتأزم في مناحي حياة المواطن المعيشية والاجتماعية والسياسية والإدارية والقيمية. وهو تساؤل مشروع، وعلينا ان نجيب بجدية وموضوعية عن هذا السؤال المهم. هذا التساؤل امتد الى خارج حدودنا، فلماذا لا نكمل هذه الحالة الفريدة، التي قدمناها للعالم، فالفرصة ما تزال متاحة لاستثمارها لاعادة أمور الدولة الداخلية إلى اوضاعها السليمة. فالظروف استثنائية وغير عادية، تتطلب سرعة العمل، كما تتطلب اجراءات استثنائية بالمعنى الشامل. علينا ان نستفيد من نجاحات الخارج حتى تستمر مسيرة النجاحات الأردنية.
اولاً: قد تتعدد الاجابات والاجتهادات على هذه التساؤلات، الا انني ارى ان الاعتراف بوجود مصاعب ومشاكل اقتصادية واجتماعية ومجتمعية حقيقية، هي بداية الحل الامثل، حتى نستطيع ان نتعامل مع هذه التحديات. فالقصور المتراكم عن التخطيط الاستراتيجي والإدارة الكفوءة لم يحقق الحد الأدنى من طموحات الشعب، الذي لا يجد عن قيمة الصبر والانتظار بديلاً.
ثانياً: ان الاعتراف بوجود هذه التحديات والقضايا يجب ان تصحبه ارادة سياسية حقيقية، لتشكل الأرضية الصلبة لإعادة تشكيل وبناء القيم، التي بدأنا نشهد تخليها عن مكانتها، لقيم اخرى خطيرة على ثقافتنا وكياننا. وكذلك السير في بناء منظومة الإصلاح الأردني على اسس ثابتة وراسخة.
ثالثاً: ان هذه الخطوات العملاقة تحتاج إلى فريق عمل ذي صلاحية وبعد نظر ونزاهة، بحيث يثق الناس بهم وبما يقومون به، فالارادة والاستمرارية والنزاهة هي ثلاثة عناصر ضرورية لاعادة المجتمع الأردني إلى الطريق الوطني والإنساني. كما ان وضع خطط بعيدة المدى سوف يجهض كل محاولات واضعي العصي في دولاب الإصلاح وطالبي التجزئة، ويجعلها مجرد فقاعات في الهواء.
رابعاً: نحن نحتاج إلى الشجاعة الكافية للاعتراف بأن الدولة لم تنجز ما يطمح الناس لتحقيقه من تغيير ايجابي في حياتهم. وابدى جلالة الملك ملاحظات متكررة حول هذا التقصير. ونرى اننا وبالرغم من السنوات القليلة الماضية التي شغلنا الناس والاعلام عنها، بأحاجي الإصلاح وألغازه، الا اننا بقينا بعيدين عن الإنجاز الحقيقي والملموس، وبقيت الإنجازات متواضعة، خاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. وظللنا نحتكم إلى منطق العاطفة والترويج لشعارات فارغة من المحتوى، لم تعد مقنعة للناس.
خامساً: ان تحقيق مبدأ سيادة القانون وتطبيقه على الجميع، دون استثناء أو محسوبيات، هو الذي يمنح المواطن الأردني ثقة مضاعفة بنظامه السياسي، ونظامه القانوني، ونظام العدالة الشاملة، التي لا تفرق بين المواطنين في حقوقهم وواجباتهم. وهذا ما يتوجب على الدولة العمل، وفق استراتيجية مستدامة، على تكريسه على الارض. ان عدم تحقيق هذه العدالة يؤدي بالنتيجة الى التجاوز على المبدأ الدستوري والانساني الخاص بمبدأ وقيمة تكافؤ الفرص، وهو المبدأ المصان دستورياً. ولم يسجل في مسيرة الإصلاح حماسة لصيانة هذه القيمة الانسانية والدستورية. ولهذا بدأ المواطنون يفقدون ثقتهم بنظام العدالة القانونية.
سادساً: نفتخر ونعتز بدستورنا، وبما تضمنه من مبادئ ومفاهيم ومعان إنسانية حضارية سامية. وندعو للتعامل معه وما يحمله من معان بكل الموضوعية وبالمفهوم السياسي والقانوني. ان الدولة المدنية الرفيعة المستلهمة من التعددية وحق الاختلاف، وسيادة القانون، وحرية التعبير، والحوكمة الرشيدة والنزاهة، حاضرة بقيمها ومعناها في الدستور. ومن المفترض ان تنعكس في القوانين والممارسات بعيداً عن حرف معانيه السامية عن قيمها وهدفها. وبعيداً عن جعلها مجرد وجهات نظر يفصلها صاحب كل هوى على قوامه. وفي هذا السياق، فان الحكومات التي تمارس مهامها الدستورية، وتتمتع بالكفاءة والقبول من الناس، هي عنصر اساسي من عناصر تقوية النظام، وفي تقوية النسيج الاجتماعي، وتقوية مناعة المجتمع امام هذه الهجمة الظلامية، التي نواجهها داخلياً وخارجياً. كما ان تقوية دور المؤسسات الدستورية وقياداتها هو بنفس الاهمية.
ان تراجع مفهوم ومعاني (الدولة) في الممارسات الإدارية والسياسية والمجتمعية، هو من أهم الامور التي يجب ان نراجعها، ونعيدها الى وضعها القانوني والدستوري، خاصة في هذه الايام، حيث نرى امامنا مجتمعات عربية تتشرذم وتتبعثر وتتقسم.
هذه فرصة سانحة لنشرك كل فئات المجتمع الأردني في صنع القرار، وفي الانضواء تحت مظلة الوطن، وترسيخ مبدأ ومفهوم المواطنة. في ضوء اللجوءات الكثيفة والممتدة، فإن ترسيخ مبدأ المواطنة والمؤسسية وهما عماد دولة القانون والامان. والنظام السياسي ورسوخ الدولة، هما مستندان من هذه الاجراءات.
هذه مبادئ اساسية، لا بد من تطبيقها بحسن نية، فيما اذا اردنا ان نواجه حقائق واوضاع الفترة القادمة، وكلها مبادئ او ثوابت بديهية، بالنسبة للمفاهيم الديمقراطية الاصلاحية.
ان نجاحنا في امتصاص انحراف ما سمي بالربيع العربي، هو ما يحثني على ان ابدي هذه الآراء والكتابة بشأنها. وما حققه الأردن من نجاح في الخارج، بالامكان ان نحرزه في الداخل، وما تشهده المنطقة من اوضاع وتحالفات جديدة ومختلفة عما كنا نتعامل معه قبل الربيع العربي، وحري بنا ان نتحلى بالادارة والارادة، حتى نكون جاهزين وقادرين على التعامل مع الشرق الاوسط الجديد، الذي بدأت ملامحه تتشكل، وحتى نستطيع ان نحمي مصالح الأردن الوطنية وهويته، وان يكون بامكاننا ان ندافع عن قرارنا الوطني، بل ونفرضه.
نحن نرى ان الوضع في سورية بدأ يميل الى حل ما (الى ان اسقطت الطائرة العسكرية الروسية)، وان روسيا هي العراب وصاحبة الكلمة الأولى في الحالة السورية، وان إيران تعطي اتفاقها مع الولايات المتحدة أهمية خاصة، وهي تريد تدعيم هذا الاتفاق، بحيث انها فوضت روسيا للتعامل نيابة عنها في مشروع الحل الروسي.
ان خريطة الشرق الاوسط الجديد (وهو تعبير أميركي اصلاً) قد تم اقرارها، من قبل دول وقوى دولية واقليمية، وليست عربية. ومنذ نهايات القرن التاسع عشر، ومصائر المنطقة وحدودها تقررها مؤتمرات اجنبية، تحدد الحدود والشروط، وحتى انها تقرر في مصائر الانظمة. هذا مخاض جربته الأمة العربية سابقاً، وهو مخاض شديد الخطورة، ويشبه الرمال المتحركة، وصفقاته غير معروفة الحدود. ويتكرر هذا الامر حالياً مع اعادة صياغة المنطقة، وبناء الشرق الاوسط الجديد.
بمنتهى الصراحة والصدق، اذكّر اننا لسنا بمنأى عن المحاولات المتكررة للمتربصين لزعزعة استقرارنا. وحدتنا والتماسك الداخلي والإصلاح الشامل والجاد، هو أكثر من ضروري لحمايتنا. وهي أمور ومناخات مختلفة عما كنا نتعامل معه قبل الربيع العربي. اضافة إلى ذلك، فإن ما يجري اليوم في سورية بالذات، هو عبارة عن حرب عالمية ثالثة مصغرة، فكل الدول العظمى والدول الاقليمية الاساسية، وحلف الناتو ومنظمات الإرهاب، بكل تنظيماتها، تشارك بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب، سواء بالدعم العسكري المباشر، أو غير المعلن، أو بتقديم المعلومات واللوجستيك أو التمويل المالي الحكومي أو الخاص.
كما ان تطرف المجتمع الإسرائيلي وحكومة نتنياهو وسياساته في فلسطين، تضع الأردن في وضع حذر وخطير، ولا يمكن ان يثق أحد بحكومة نتنياهو، أو بوعودها وسياساتها. وبنفس الوضوح اقول ان خطر سياسات ونوايا إسرائيل تجاه الأردن، لا تقل في خطورتها على المدى البعيد عن خطر الإرهاب. نتنياهو لن يلتفت إلى كل التنديدات من حلفائه ولا للاحتجاجات في بلاد العرب والمسلمين، لانه يعرف انها فارغة، ولن تصل إلى حدود الردع، وهو يحقق ما يخطط له سواء في القدس أو الضفة.
ولا بد من استكمال هذه الرؤية بالقول، ان انخفاض أسعار النفط المتوقع له ان يستمر لفترة قادمة، سوف يؤثر بشكل سلبي وكبير على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة السعودية، المنهمكة في حرب مكلفة ومؤلمة في اليمن. وهذا يعني بالنسبة للأردن، أن الدعم المالي الخليجي للأردن سوف يتأثر سلبياً، والاهم والاخطر، هو ان وضع المغتربين الأردنيين في دول الخليج، سيتأثر هو الآخر.
اصبحت تداعيات كل هذه القضايا على الأردن واضحة، فهذه كماشة سياسية اقتصادية مجتمعية مثلثة، تحيط بالأردن، تجعلني ازداد قناعة، بأن الفرصة سانحة ومؤاتية لنا في الأردن، لكي نقيم صرحاً متماسكاً وقوياً، وسوراً منيعاً في وجه هذه الاحتمالات، وفي وجه المؤامرات والعدوان والظلامية والفوضى والاحتلال. هذه حلقة متكاملة من الاحداث التي تحيط بالأردن من كافة الجهات، وحتى من الداخل، قد يترتب عليها تداعيات اقليمية، قد لا يكون الأردن مشاركاً او مقتنعاً بها.
كما تغلب الأردنيون على مصاعب سابقة، فانهم قادرون، بل تواقون لحماية وطنهم وقيمهم وهويتهم من انواء المنطقة، التي قد تطول وتتعقد. الشعب جاهز لكل ذلك، وهو بانتظار اعطائه الفرصة لتحقيق ذلك.
* رئيس وزراء اسبق.