عروبة الإخباري- في مثل هذا اليوم قبل ثمانين عاما شيع آلاف الفلسطينيين في حيفا جثمان الشيخ المجاهد عز الدين القسام الذي خرج للجهاد ضد الانتداب البريطاني واستشهد خلال اشتباك مع قواته في أحراش بلدة يعبد قرب جنين شمال الضفة، مع مجموعة من رفاقه الثوار. وكان استشهاده محفزا لنشوب الثورة الفلسطينية الكبرى (1939-1936) التي حملت اسمه.
وعز الدين القسام شيخ أزهري من مواليد جبلة قضاء اللاذقية في سوريا. شارك في ثورة ابراهيم هنانو هناك عام 1920 وطورد من قبل الفرنسيين وحكم عليه بالإعدام فقدم إلى حيفا في فلسطين عام 1921 وعمل معلما في مدرسة البرج الإسلامية ومأذوناً شرعيا لقضاء حيفا وخطيبا في جامع الاستقلال القائم حتى اليوم. وبعد هبة البراق في 1929 عمل على إنشاء خلايا جهادية سرية عملت أساساً في منطقة حيفا والجليل الأسفل. بعد سنوات من التهيئة السرية في حيفا ومنطقتها خرج القسام ومعه 15 عضواً من أعضاء تنظيم جماعة « الكف الأسود « كانوا ينتمون إلى النواة الضيقة للمجموعة المقربة جداً من قائدها (في حين كان عدد المجموعة الأوسع قرابة 200 مقاتل).
أسئلة محيرة
ويوضح المؤرخ المختص بالشأن الفلسطيني البروفيسور مصطفى كبها أن هناك بعض الأسئلة المحيرة منها حول ماذا كان القسّام ينوي أن يعمل بالفعل من هذا الخروج المبكر قبل أن يتكامل تنظيمه الثوري،شعبية ومع هذا العدد القليل من رجاله؟.. وهل كان بالفعل ينوي إعلان الثورة المسلحة على الملأ، الشيء الذي يعني التنازل عن آليات العمل السري التي سار عليها سنوات عدة؟. وهل استشار القسّام أحداً من زعماء الحركة الوطنية قبل خروجه واقباله على هذه الخطوة المصيرية كالحاج أمين الحسيني مثلاً.
ويرى كبها أن القسام كان ينوي القيام بثورة مسلحة أو على الأقل بعمل عسكري له دوي يكون من شأنه اقناع بريطانيا بالعدول عن تأييد مشروع الوطن القومي اليهودي ومنح الفلسطينيين بعض مظاهر الاستقلال والسيادة. ويشير إلى بعض الدلائل منها استقدام ضابط تركي كبير، سبق وخدم في الجيش العثماني، وذلك لإعطاء أعضاء المجموعة تدريبات عسكرية. وأوضح أنه من المنطقي الافتراض أن القسام صاحب التجربة العسكرية كان واعياً حتماً لمحدودية خطة من هذا القبيل وعليه فإنه من الصعب القبول بما يقوله المؤرخ صبحي ياسين الذي سار على أثره باحثون كثيرون.
ويفترض كبها أن الخروج كان بقصد استمرار الحض على الثورة بدليل اصطحابه الكثير من الدعاة والمدرسين في المجموعة وليسوا من المقاتلين. وعليه، يمكن القول إن الكشف المبكر عن المجموعة كان انحرافاً عن الخطة الأصلية وأدى إلى وأدها رغم محاولات القسام تغيير خطته والاختفاء بمنطقة جبلية حرشية شمال الضفة الغربية.
القسام والمفتي
وحول علاقته بالمفتي الحج أمين الحسيني يقول المؤرخ صبحي ياسين إن الأخير أبلغ القسام بضرورة التريث بالثورة. ويذهب زميله إميل الغوري إلى أن المفتي هو الذي عمل على تنظيم وتسليح المجموعات المسلحة التي عملت في الشمال في الفترة الواقعة بين السنوات 1931 1935.
ويلجأ كبها للبت بهذه المسألة، إلى شهادات معاصرين منها مقابلة أجرتها المؤرخة بيان نويهض – الحوت مع محمد عزت دروزة (مدير الأوقاف الإسلامية، عضو حزب الاستقلال، عضو اللجنة العربية العليا وأحد البارزين في ديوان الثورة الذي كان مقره في دمشق) ويقول دروزة في المقابلة «أنا لا أعرف يقيناً عن العلاقة بينهما، إنما القسّام كان واعظاً في حيفا والوعاظ كانوا مرتبطين بالمجلس الاسلامي الأعلى الذي يرأسه الحاج أمين فيجوز أن تكون له صلة من هذه الناحية، وقد أرسل القسّام لي في موضوع الخلية الجهادية التي يرعاها وقال إنه يريد أن يواجه الحاج أمين أيضاً ولا أدري هل واجهه أم لا.»
وصية القسام
وربطت علاقات خاصة القسّام بالزعيم الاستقلالي الحيفاوي رشيد الحاج إبراهيم الذي كان آخر من رآه في حيفا واستمع إلى وصيته التي جاء فيها «إني واثق من نفسي وأن صوتي سيجد صداه في كل مكان عند أول صيحة ونستودعك الله راجين من المولى تعالى أن يوفقنا بأعمالنا في سبيل الوطن».
أما اتباع القسّام الذين كتبوا فيما بعد، فقد نفوا أية علاقة لزعيمهم بأي حزب من الأحزاب وأكدوا أنه عمل بمعزل عن الخلافات الحزبية وحسب ما أملته علية نفسه الثائرة التواقة للتغيير.
شاركت في جنازته
وحتى آخر أيامه ظل الشيخ سالم صقر من كفركنا قضاء الناصرة يستذكر القسام مسيرته وسيرته وتشييع جثمانه. وقبل رحيله روى الشيخ صقلا لـ «القدس العربي» أنه ذهب لحيفا لزيارة شقيقته عائشة صباح يوم الجمعة الموافق 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935. وتابع «في الطريق لحيفا ركبت حافلة من الناصرة فالتقيت بالمرحوم راجي أبو عرابي عواودة وكان راجعا من حيفا وبيده صحيفة «فلسطين» وكانت عنوانها الرئيسي: «استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام». فطلبتها منه فقد صعقني الخبر ورغبت بقراءة التفاصيل». وقال صقر إنه عندما وصل حيفا شاهد ثلاث جنازات تخرج من المدينة باتجاه بلد الشيخ وهي للشيخ القسام وأبو عبد الله الزيباوي من الزيب وحنفي عطية (عامل مصري كان يعمل في حيفا). ويستذكر أن الجنازات الشعبية سارت ومن خلفها كانت فرقة من الجيش الإنكليزي وكان المشيعون يهتفون ضد بريطانيا… ويرددون شعرا لشاعر الثورة نوح إبراهيم:
عز الدين يا مرحوم….موتك درس للعموم
آه لو كنت بدوم …. يا رئيس المجاهدين
عز الدين يا خسارتك… متت فدا امتك
مين بنكر شهامتك…..يا رئيس المجاهدين
وتابع الشيخ صقر حديثه بانفعال عن القسام الذي سميت باسمه الكتائب المسلحة لحركة حماس ومؤسسات فلسطينية وعربية عامة: «بنفس يوم الجمعة ذهبت لمسجد الاستقلال حيث كان يعطي فيه القسام الدروس الدينية والسياسية. عند قيام المؤذن طاهر الدريني من أم الفحم أصلا برفع صلاة الظهر قام المصلون بأداء صلاة الجمعة وحضر رجل الشيخ محمد باشا كاتب من المحكمة الشرعية ولما صعد المنبر وما أن قال «أشهد أن محمد رسول الله « أجهش بالبكاء فبكى المصلون وأنا منهم لأن القسام كان عزيزا على الناس. قدم الشيخ محمد خطبة الجمعة وأنهاها بالقول: «ولله جنود السموات والأرض.»
لكن معرفة الشيخ الذي تقلبت عليه فصول الدهر بدأت مع القسام قبل استشهاده وملامح شخصيته مطبوعة في ذاكرته. وعن ذلك قال «خلال زيارتي لحيفا كنت دائما أزور مسجد الاستقلال لسماع دروس وخطب الشيخ القسام الذي أحببته واحترمته وأذكر إني صليت بمعيته في شهر رمضان واحد 27 مرة صلاة التراويح وكان المرحوم يبدأ الصلاة بتلاوة آيات من سورة البقرة، اعتمر المرحوم عمامة كسائر علماء الأزهر وكان بارعا في الخطابة.. فخطاباته حماسية وتدعو لاستقلال البلاد وطرد الانكليز ومؤثر جدا بالناس وشخصيته ساحرة يشع النور من وجهه ويتمتع بملكة الكلام وألفاظه فصيحة ولهجته سورية. وفي الدرس الأخير الذي سمعته بعام استشهاده أذكر أنه حثّ المصلين على النهوض والتحرر من الانتداب.
عرس الحفيد
وظلت محبة القسام المدفون في مقبرة بلد الشيخ في حيفا وتعرض لانتهاكات متطرفين يهود عدة مرات تسكن قلب الشيخ صقر حتى مماته قبل عدة سنوات عن عمر 103 سنوات، وعام 1998 لبى دعوة حفيده أحمد محمد القسام ، ضابط في الشرطة الفلسطينية قدم مع الراحل ياسر عرفات بعد اتفاق أوسلو عام 1993 للمشاركة بحفل زفافه.
وتكريما لذكرى الشيخ القسام الذي استشهد قريبا من يعبد تبنت بلديتها وقتها مسؤولية حفل زفاف زواج الحفيد أحمد. وعن ذلك قال الشيخ صقر « أخذت معي رسالة كتبتها بيدي عن القسام وأهديتها للعريس وهناك أخذتني العبرة وبكيت وفاء لذكراه كواحد أعجب به وبسيرته وقبل استشهاده المبكر كنت استعد للانضمام له ولحركته السرية رسميا».