بالرغم من أنّ رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، لم يسمّ بصورة مباشرة الأشخاص الذين اتهمهم بأنّهم يبتزون الدولة، ويحاولون كسب الشعبوية على حساب الاستثمار، ويكلفون الخزينة ملايين الدنانير، إلاّ أنّ إصبع اتهامه يؤشّر بوضوح إلى مؤسستين رئيستين: “الغذاء والدواء” و”المواصفات والمقاييس”.
هذه ليست المرة الأولى التي تشنّ فيها الحكومة هجوماً قاسياً على مديري هاتين المؤسستين، وهما -وللطرافة- موظّفين رسميين في الحكومة. لكنّه الكلام الأكثر قسوة من قبل رئيس الحكومة حتى الآن. وكنّا سابقاً نسمع نقداً لأداء الرجلين (هايل عبيدات- مدير الغذاء والدواء؛ وحيدر الزبن- مدير المواصفات والمقاييس) من قبل وزراء ومسؤولين على مستوى عالٍ في الدولة، واتهامات شبيهة بتلك التي أطلقها رئيس الوزراء بحق الرجلين.
حسناً، نعترف أنّنا -في الإعلام، وتحديداً في “الغد”- ننحاز لهما. لكن دعني أوضح -يا دولة الرئيس- أمراً مهماً لك، يتمثّل في أنّ الانحياز ليس قائماً على علاقةٍ شخصية أو نفوذ خاص لهما على الكتّاب ووسائل الإعلام، أو تغرير وتضليل، أو استجابة منّا لما سمّيتها -للآسف- “شعبوية رخيصة”؛ بل هو انحياز لك شخصياً ولحكومتك، وللدولة وسمعتها وقيمها!
لماذا؟!..
لأنّ ما تقوم به هاتان المؤسستان، بقيادة هذين الموظفين الشريفين، يصب في النهاية في رصيدك أنت شخصياً، كونه يعطي الحكومة درجة متقدمة من احترام دور المؤسسات الرقابية التي تنحاز للمواطن وأمنه الصحي والغذائي، وذلك من أمن الوطن، على حساب أصحاب الشركات والمصالح الذين لا يلتزمون بالمعايير المتفق عليها. وهذا الدور المهم لهاتين المؤسستين علامة قوة حقيقية، ويحسب في رصيد الدولة وسمعتها واحترامها للعمل المؤسسي والقانون، ويجسّر العلاقة المهترئة بينها وبين المواطن.
أهم ما قام به هذان الموظفّان، الموصوفان بالتشدد و”الحنبلية”، وهو بالمناسبة في هذه المواقع المهمة وصف إيجابي، بل ومطلوب، هو أنّهما أعطيا مصداقية للحكومة ومؤسساتها. وهي، أي المصداقية، المصطلح الأكثر تعبيراً عما نتحدث عنه، وليس مصطلح الشعبوية، كما وصفته!
أنت شخصياً سُجّل في رصيدك ما قامت به هاتان المؤسستان، لأنّك احترمت نتائج المختبرات، وأعدت شحنات القمح وأسطوانات الغاز، هل خسرنا ملايين الدنانير؟ ربما. هل تشددنا في المعايير؟ قد يكون. لكن قبل هذا وذاك، كسبنا ما هو أهم من ذلك: ثقة المواطن بالحكومة ومؤسسات الدولة، وخشية التجار والشركات من التلاعب في هذا المجال، كما كان يحدث سابقاً ويمرّ بلا حسيب ولا رقيب، لأنّ المسؤولين هيّنون ليّنون، وليسوا “دقرين” مثل الحاليين!
لا يا دولة الرئيس! من يضرب الاستثمار هو التطاول على القانون والتلاعب بالمعايير؛ هم الموظفون الذين يتفانون في الدفاع عن القطاع الخاص على حساب المواطنين؛ هم الذين وقّعوا عقوداً من دون أن يرف لهم جفن، ودفعوا مسبقاً، وانقلبوا بدلاً من الدفاع عن مؤسساتهم، للدفاع عن أصحاب تلك الشركات. هؤلاء هم من يهرّبون الاستثمار، لأنّ المستثمر سيشعر أنّه في غابة، ودولة تحكم بالفساد والواسطات وقوانين متعددة، لا بمعيار واحد وقانون واحد، وبحاكمية صارمة في التعامل مع الأمور!
لست مختصاً بالشحن، لأعرف ما هي دلالات قراركم بتخفيض حجم الرقابة على البضاعة القادمة لميناء العقبة (إلى 5 %). لكنّني لست مرتاحاً، كما غيري كثيرون، لهذه التصريحات والتوجهات من جهة، ونشعر أنّ هجومك هو مقدمة لتغيير هذين المديرين من جهة أخرى. وإذا فعلت ذلك، فسيضر بقيمة المؤسستين والوطن، ليس لأشخاصهما، بل للدلالات المترتبة على هذه القرارات.
إذا كان هناك اعتراض فني، فمن الممكن معالجته بتطوير الأداء والأجهزة، والتفاهم داخلياً على المعايير المعتمدة. أما أسلوب الهجوم الشخصي، فهو أغرب سلوك متوقع من رئيس حكومة!