لا يمكن لشخص يقدم على حرق أطفاله، إلا أن يكون قد بلغ أخطر مرحلة من مراحل الاعتلال النفسي؛ مع ظهور علامات هذا الاعتلال على سلوكه وتصرفاته، خاصة للمقربين من أفراد أسرته. ولا أظن أن طبيبا مختصا، أو معالجا للأمراض النفسية، يصعب عليه تشخيص الأعراض من أول جلسة مع المريض.
فكيف فات الأمر على المختصين في حادثة الرجل الذي أقدم على حرق نفسه وزوجته وطفليهما، شرقي عمان، قبل أيام؟ الأرجح أن أحدا لم يجر محادثة مع الزوج.
الزوجة المغدورة، وحسب تأكيدات رسمية، قدمت شكوى رسمية لإدارة حماية الأسرة، بعد تعرضها للضرب والتعنيف من قبل زوجها. وحصلت على تقرير طبي بذلك، وأحيلت القضية إلى المحكمة. وأفرج عن الزوج بعد مصالحة عائلية.
إن مجرد إقدام رجل على ضرب زوجته أو تعنيف أطفاله، يقتضي إخضاعه لفحص نفسي، بصرف النظر عن الإجراءات القضائية من عدمها. سلوك كهذا يوحي بوجود مشكلة، ربما تكون في بداياتها، وبالإمكان تداركها بالعلاج.
لا يبدو من تصريحات المعنيين أن الزوج قد خضع لمثل هذا الفحص، أو حتى مقابلته من قبل مختصين.
ذكرتنا الزميلة نادين النمري في “الغد” بجريمة مماثلة وقعت العام الماضي، وراح ضحيتها ثلاثة أطفال قضوا على يد والدتهم. وها نحن بعد جريمة ثانية أشد بشاعة، يكرر المختصون الكلام نفسه عن “قصور في الاستجابة المهنية للعنف الأسري”. أي إننا لم نتعلم الدروس من جريمة “طبربور”، رغم أطنان الحبر التي سالت في الكتابة عنها.
لا شيء تغير في المنظومة؛ الإجراءات الروتينية نفسها التي تفتقر للحس بالمسؤولية، وتتجاهل العواقب المخيفة المترتبة على إهمال الحالات، والقصور في الاستجابة.
طوال الأيام التي تلت الجريمة، كان أكثر ما يغيظ حالة اللامبالاة التي طبعت سلوك الجهات المعنية. في دولة أخرى، كان لحادثة كهذه أن تتصدرعناوين الأخبار، وأجندة اجتماعات المسؤولين، حتى على مستوى مجلس الوزراء. هل توقف مجلس الوزراء عند القضية، ولو لبضع دقائق؟
لم نسمع عن تحقيق فتح مع المسؤولين الذين تلقوا شكوى التعنيف من الزوجة، أو عن نية الحكومة والوزارة المختصة إجراء مراجعة فورية لتعليمات التعامل مع شكاوى العنف الأسري. لم يخرج مسؤول واحد ليروي للرأي العام القصة، وتفاصيل الجريمة وخلفياتها. كل ما كان بين أيدي الصحفيين مجرد تسريبات، وبيان من الأمن العام عن واقعة الكشف الميداني عن الجريمة والسيارة المحترقة.
إن واجب الجهات المسؤولة التحرك لتصنيف الجريمة في خانة الفعل غير المعقول، كي لا تتكرر في المستقبل، وتتحول في الذهن العام إلى جريمة عادية يمكن توقعها في أي يوم.
هي جريمة كاملة الأوصاف. لكن ينبغي تجريمها بقوة، وإخراجها من دائرة المعقول والممكن.
أورد تقرير “الغد” آراء لمختصين في مواقع المسؤولية. وهي آراء مهمة وعميقة، تؤشر على بواطن الخلل في منظومة العمل. لكن ما قيمة كل ذلك إذا لم يترجم إلى سياسات وإجراءات؟
الجريمة تدمي القلب، والتفاصيل بشأن ما حصل للأطفال الضحايا، لا يحتملها بشر. لا يمكن للمجتمع أن يستسلم لهذا القدر من الشر، ومن الخطورة أن نسمح بالتعايش مع هذا الصنف من الجرائم.