عروبة الإخباري- على الرغم من أن الهبة الشعبية الأخيرة في الأراضي المحتلة أتت لتحْكم مجددا بفشل أنظمة واستراتيجيات الاحتواء والترويض الإسرائيليين للتجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، فإنها وفي الوقت نفسه، تثير تساؤلات صعبة حول آليات المواجهة الفلسطينية لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، وحال العمل السياسي والكفاحي للفصائل الفلسطينية وأنماطه.
أول هذه التساؤلات يتعلق بدور الفصائل والقيادة الفلسطينية حيال ما يحدث أمام أعينها من انتفاض اشتعل في كل المدن الفلسطينية، وعن قراءتهم السياسية والتنظيمية لما ينبغي فعله على صعيد تأطير وتنظيم حركة الجموع الثائرة. لكن السمة الغالبة لاستجابة القيادات السياسية الرسمية والفصائلية ظلت الارتباك والتشويش والبطء في استيعاب وتائر هذه الحركة ومجاراتها. ولئن كان رد الفعل هذا متوقعا، فإنّ المتظاهرين الذين يواجهون الجنود والمستوطنين المحتلين تعففوا عن استقصاء أثر أفعال ومواقف سلطاتهم وفصائلهم المختلفة.
التساؤل الثاني: أين غزة؟ مع نهاية الحرب الأخيرة على قطاع غزة في العام الماضي، واظبت فصائل المقاومة الفلسطينية على ملء شوارع القطاع بمجسمات ولوحات كبيرة تحتوي في معظمها على صور لمقاتلين ملثمين وأسلحة متطورة يتم تصميمها عبر برامج حاسوب متواضعة، وتتضمن شعارات بصياغات ركيكة تمجّد مقاتلي هذا الفصيل أو ذاك، وتتوعّد الإسرائيليين بالموت على يد هؤلاء المقاتلين و “أسلحتهم النوعية”، حتى بات يخيّل للسائر في شوارع غزة أنّه يتصفح عبر الإنترنت مواقع لألعاب الفيديو الحربية.
وبعيداً عن التساؤل حول ماهيّة الرسالة التي من شأن هذه اللوحات والمجسمات الدعائية أن تتركها في ذهن ناظريها، وعن أثر هذا النمط التعبوي المغْرِق في التصنع والادعاء على الوعي الجمعي للمجتمع الغزّي وفهمه لقضية تحرره الوطني وتصوره لدوره المفترض في المعركة، فإن هذا الخطاب الفصائلي السائد، بشكله ومضمونه الحاليين، يعكس حرفيا الفهم الذي تُقارب به قيادة فصائل “مشروع المقاومة” في غزة صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي، وفهمها أيضا لدور وموقع الجماهير الفلسطينية من هذا الصراع. فالفصائل التي استدرجت بعضها إلى سباق محموم خلال الانتفاضة الثانية عام 2000 للتسلح وجمع المقاتلين في صفوفها، ابتداءً بمحاولة مشكوك في جدواها وممكنات تحقيقها، تتعلق بالسعي لاستنساخ تجربة حزب الله اللبناني، وما رتبه تالياً هذا السباق من اقتتال في ما بينها على سلطة وهمية على الأرض، آل في النهاية إلى سيطرة طرف دون الآخر عليها، ليسخِّر الطرف الفائز مقدراته العسكرية في توطيد أواصر حكمه وإخضاع الآخرين لهذا الحكم ولرؤيته لكيفية إدارة المعركة مع إسرائيل.. هذه الفصائل لم تعبأ بحقيقة أن تمدد منطق المقاومة الميليشياوي أتى على حساب كل أشكال المقاومة الأخرى، وأن حصر مقاربة هذه الفصائل للمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي بالاشتباك الناري معه عبر تشكيلاتها المسلحة، انطوى على استبعاد للعناصر الفلسطينية الأخرى من معادلة المواجهة، ليتم اختزال معركة التحرير الوطني وفقها إلى نزاع مسلح بين إسرائيل وتشكيلات فلسطينية محددة لا تحظى بالحد الأدنى من التوافق الوطني المطلوب لفعلها المسلح، سواء لجهة شكله أو أهدافه والتكلفة التي تترتب عليه. هكذا يحيّد الجمهور الفلسطيني بفئاته ومكوناته الأخرى كافة عن دائرة التأثير والتفاعل مع المجال السياسي للمواجهة، ويُحشر في خانة المتابع السلبي للكيفية التي يتم بها تقرير مصيره هو.
طالت مفاعيل الواقع المأساوي الذي نشأ على اثر الانقسام بين فتح وحماس، المزاج الشعبي العام في كلا الشطرين المنقسمين، خالقة تباينات أفرزت جدول أعمال منفصلا لمجتمع كل شطر فيهما. فإذا كانت عناوين كالقدس والحواجز العسكرية والاستيطان والأسرى هي مفردات المجال السياسي اليومي في الضفة الغربية، وهي نفسها الشرر الذي أشعل نيران المواجهات الأخيرة في الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر، فإن الأوضاع المعيشية البائسة التي أنتجها الانقسام في قطاع غزة قد مسخت المجال السياسي الغزّي ومفردات فعله إلى عناوين تفصيلية تتعلق بتحسين شروط الحياة تحت النِير المركب للشقاق الوطني والاحتلال، الذي يحمّل الجزء الأكبر من سياساته على شمّاعات الأوضاع الشاذة للانقسام، كرفع الحصار وفتح المعابر والسماح بتحويل الرواتب والحريات العامة والخاصة للمواطنين في ظل حكم حماس، ليتم نفخ القيم الفعلية الحقيقية لهذه المطالب حتى تصبح برنامج عمل وطنيا، يتحول وفقا له كل يوم يَفتح فيه معبر رفح أبوابه أو كل مبلغ يتم تحويله من المانحين، إلى انتصار وطني يستدعي احتفالاً ولوحة ومجسما في الشارع. إلى جانب أن هذه العناوين باتت عوامل التحريك لكل تصعيد عسكري بين إسرائيل والفصائل المسلحة في غزة، وهي موضوعات أقلّ ما يقال عنها إنّها أدنى من أن تبني قاعدة لجبهة وطنية شعبية موحدة تسند هذه الفصائل في مجابهات عسكرية واسعة. وتتذرع إسرائيل لدى استخدامها أعتى أسلحتها وأشدها فتكاً، بالخطاب والادعاء الفصائلي المفرط في المغالاة بتصوير قدراته العسكرية والتسليحية. فالرواتب ليست القدس وبوابة رفح إلى سيناء ليست رام الله وعكا، كما أن الأثمان التي تكبّدها الغزّيون في حروبهم الطاحنة مع إسرائيل لا يمكن أن تعادلها مكتسبات يتم تحصيلها على صعيد الموضوعات المطروحة كبرنامج عمل ودوافع لهذه الفصائل، فكيف والحال أن أوجه السوء تتفاقم وتتعقد في أعقاب كل جولة من جولات هذه الحروب.
لذلك، فإنّ الكلفة الباهظة التي تترتب على أي عمل عسكري تقْدم عليه الفصائل انطلاقا من قطاع غزة، صار قيدا يكبلها لحد الشلل، إضافة إلى أن مجال الاشتباك الناري الميداني مع إسرائيل يضيق باضطراد حتى تكاد إمكانيته تقتصر على الأنفاق وإطلاق الصواريخ، خصوصا بعد نجاح إسرائيل في عزل نفسها عن الالتحام المادي مع الوجود الفلسطيني، سواء بفضل إعادة انتشارها العسكري حول قطاع غزة عام 2005 (بحجة خطر الصواريخ الفلسطينية في حينه) أو بفضل المناطق العازلة الواسعة التي تمتد حول حدود كيانها مع القطاع بذريعة الأنفاق التي تستخدمها المقاومة حاليا.
العزل والإغلاق المحْكم لحدود القطاع (الذي دأبت إسرائيل على وصفه بـ “التنازلات المؤلمة”)، تسوِّقه الفصائل الفلسطينية كإنجاز لفعلها المسلح و “تحرير لغزة” من الاحتلال، ما يفتقر على الأرض لأي برهان عليه. وهو أدى من ضمن ما أدى إليه، إلى تقويض القدرة على تنظيم أي شكل من أشكال المقاومة الشعبية. فالشعب الفلسطيني في غزة تفتك به آليات فرض الحصار وتثبيته، وشظف العيش، ويئن تحت وطأة التهشيم المستمر لوشائج ارتباطه بباقي تجمعات الشعب الفلسطيني وقضاياه الكبرى جراء حالة الانقسام القائمة بين سلطتين تمعن الأولى في التنكر له ولتضحياته، ومساومته في لقمة عيشه على ولائه لها، والمقامرة بمصائر عموم الشعب الفلسطيني وقضيتهم الوطنية في بازار مفاوضاتها العبثية، وترى الثانية القطاع وأهله كأسرى في مغامرات التموضع المتقلب من شبكة تحالف إقليمي إلى أخرى، والولع باستمرار بقائها واستئثارها بالسلطة دون أن يتبدّى في الأفق أي أمل يبرر لها هذا الاستعصاء على استعادة الوحدة والتشبث بحكم لا يُخفى على أحد أنّه بات يحرق أرصدتها ومصداقية فعلها المسلح ويثقل كاهل الناس بتحمل أعبائه.
كشفت المواجهة الأخيرة، كغيرها من المواجهات، أن القيمة الحقيقية التي يختزنها الشعب الفلسطيني هي فعله المقاوم الرافض للاحتلال والمتشبث باسترداد حقوقه. الفعل الذي يوفر أداة التعريف الهوياتية الجامعة للفلسطينيين في كل بقاع تواجدهم، والذي يستدعي، إلى جانب الإبقاء على جذوته مشتعلة، تطويره واجتراح سبل توسيع قاعدة المشاركة فيه لكل الفئات الشعبية الفلسطينية، ورفده بسائر الأشكال النضالية التي تعزز من قوته ونطاق تأثيره، بدءا بالتظاهر السلمي وانتهاء بالعمل المسلح الواعي للحدود الحقيقية لإسهامه، والمتخفف من هوس الادعاء والهيمنة. فالسلاح الذي يتحول إلى سلاسل تكبل قدرة يديه على حمل حجر يقذفه نحو عدوه وتَحول دون وصول شعب يرزح تحت الاحتلال ليغرز أظافره في وجه هذا المحتل.. ليس سوى أكوام حديد صدئة تقصم ظهر حاملها.(السفير)