عملياً، لا يوجد طرف باستثناء الأردن يقف اليوم في وجه إسرائيل وما تقوم به ضد الشعب الفلسطيني، وفرض واقع جديد في القدس. فالسلطة الفلسطينية في حالة ضعف شديد، محكومة بتناقضات كبيرة؛ بين التمويل والتنسيق الأمني من جهة، والغضب الشعبي من جهةٍ أخرى. أمّا باقي الدول العربية، بما فيها الدول المحورية الرئيسة، فغارقة في أزماتها ومشكلاتها!
وبالرغم من أنّ الأوراق التي بيد الأردن لمواجهة العنجهية الإسرائيلية محدودة على صعيد دبلوماسي، في ظل الوضع العربي المتردّي والانقسام الداخلي الفلسطيني، إلا أنّ الضغط الشديد على إسرائيل يأتي من الأردن، الذي يُحسن استخدام هذه الأوراق إلى أقصى مدى ممكن؛ وبالرغم -كذلك- من وجود أصوات يمينية إسرائيلية متشددة في خندق نتنياهو تعلن على الملأ تذمّرها من هذا الدور الأردني، وتلوّح للأردن بورقة “الوطن البديل“!
أقصى ما يستطيع الأردن فعله، واقعياً، لتلبية المطالب الشعبية، هو سحب سفيرنا وطرد السفير الإسرائيلي. وهو الأمر الذي فعلناه سابقاً. لكن القلق هو أن يكون هذا العمل مبرراً لتمادي الحكومة اليمينية أكثر بعد تحللها من هذه الضغوط، ما يزيد من الأخطار على الأماكن المقدّسة، ويحجّم قدرة الأردن على الإمساك بهذه الورقة. وهو الأمر الذي بدأت تتفهّمه نسبة أوسع من الرأي العام الأردني، مقارنةً بالأحداث السابقة الماضية.
كل ذلك يسجّل للأردن. لكن أين تقع نقطة الضعف الكبرى والأساسية في هذا الدور؟ إنها في “الرسالة الاتصالية”، أي قدرة الدولة على إيصال رسالتها وتقديمها بما يعكس هذا الدور ويستبطنه، على أكثر من صعيد، داخلي وخارجي أيضاً.
الأكثر سوءاً في موضوع الرسالة الاتصالية وأوسع مساحة في نقطة الضعف هذه، هي -وللمفارقة- الرسالة الاتصالية داخل دوائر ومؤسسات الدولة نفسها! فهناك غموض وتشوّش وتعدد، بل ربما تضارب أجندات وأولويات، وهو أمر ممكن ووارد في العمل المؤسسي، لكن من المفترض أن تتراجع هذه التناقضات لتحتل المرتبة الثانية، بما يخدم الدور الأردني ولا يضرّ به أو يتناقض معه.
معضلة الإدارة الأردنية أنّها ما تزال تبدو مثل “جزر متفرقة” (كلّ حاجة سليمة بس لوحدها!)، بما يضرّ بالدور الأردني وصورته داخلياً وخارجياً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، أنّه في الوقت الذي يبذل الأردن جهوده الدبلوماسية، في ظل غياب عربي، ندخل في احتكاكات وتجاذبات على الساحة الداخلية بين الدولة والقوى المختلفة. وهو أمر طبيعي؛ لكن ما ليس طبيعياً، ويمثل مشكلة حقيقية، أن تطغى أحداث العنف والمواجهات بين المتظاهرين والأمن على صورة الأردن الإخبارية، أو حتى على انطباعات الرأي العام العالمي والعربي، والأردني قبل ذلك، على حساب الدور الآخر الأكثر أهمية، الذي من المفترض أن يرسم هو صورتنا، لا تلك الأحداث الهامشية التي لا تتوافر سوى على مناكفات داخلية بائسة!
بالضرورة، هناك حرص من قبل وزارة الداخلية والأمن على رسم خطوط حمراء للفعاليات المتعاطفة مع الثورة الشعبية الفلسطينية، وضبط الأمور في مربعات واضحة. لكنّ من الضروري كذلك أن يأخذ راسمو هذه الخطوط بعين الاعتبار توسيع هذا الهامش وتعريضه، ومنح الشارع (المتعاطف إلى أقصى مدى مع أشقائنا الفلسطينيين) فرصة حقيقية للتعبير عن هذه المشاعر. وهو أمر لا يؤثر ولا يضر، من قريب أو بعيد، بالحالة الأمنية، بقدر ما يخدم الدور الأردني وصورة الأردن في الداخل والخارج، فيما يؤذينا كثيراً خبر الاعتقالات والمواجهات والفصل من الجامعة على خلفية التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين!
من المهم أن يدرك صانع القرار (في المستويات المختلفة) أهمية الرسالة الاتصالية وصورة الدولة، داخلياً وخارجياً، بوصفهما اليوم أحد أبرز مصادر القوة الناعمة وتمتين الجبهة الداخلية، فتلك نصف المعركة إن لم تكن ثلثيها!