صادف الثلاثاء 5/10 “اليوم العالمي للمعلم” وكان شعاره لهذا العام “ تمكين المعلم.. بناء مجتمعات مستدامة.” و المجتمع المستدام هو الذي يصل مرحلة من التقدم الإقتصادي الإجتماعي السياسي تمكنه دائما من مواجهة التحديات، و تجديد الإمكانات، و بناء المستقبل، و تقدم الأجيال نحوه بثقة و اقتدار. و هذه المجتمعات تقوم على المعرفة أي العلم والمعلومات والخبرة والإنتاج،و التكنولوجيا والإبداع. و تقوم على الأخلاق والقيم الوطنية و الإنسانية. ولعل الحالة العربية الراهنة تبين بكل قوة ووضوح صدقية مضمون هذا الشعار و أهميته للشعوب . فقد عمل تدهور التعليم في أبعاده التربوية والعلمية و القيمية في مختلف الأقطار العربية بدون استثناء تقريبا على مدى ال 40 سنة الماضية ، إضافة إلى بطء النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة واتساع مساحات الفقر ، عمل على تعميق حالة التفكك والتبعثر والتطرف والعنف الذي تشهده المنطقة في كثير من جوانبها. لقد كانت الأسباب الرئيسية وراء تدهور التعليم و انتكاسته تتمثل في تراجع حال المعلم، و تسييس التعليم،و ضعف المناهج،و تهافت الكتب المدرسية و الجامعية، وتأثير المناهج الخفية التي تعمل على إلغاء الوطنية و مصادرة العقل و التفكير والإبداع ،و النقل السطحي من مناهج أو كتب ، و إهمال الفلسفة والفنون والرياضة واحتكار و سيطرة وزارات التربية و التعليم على كل الحلقات ذات العلاقة ،مما منع بناء آليات لقياس الأداء بموضوعية للتقييم و لتصحيح الإتجاهات في الوقت المناسب. هذا إضافة إلى التوسع الكمي السريع دون الإستعداد لمتطلبات التوسع، و ضآلة الإنفاق على التعليم، وغياب الربط بين التعليم و الإنتاج،و تراجع البيئة المدرسية. وفوق كل ذلك فأن الإدارات الرسمية والقوى السياسية العربية لم تنظر إلى موضوع التعليم بالجدية الكافية والأولوية الملحة، ولم تدرك أن المدرسة هي التي تصنع المجتمع. بل إنها درجت على أن تربط بشيء من التبسيط و الإستسهال بين المدرسة و الجامعة من جهة، و بين التلاميذ الصغار والفتيان والفتيات من منظور عفوي من جهة أخرى. و لذا لم يكن لديها مانعا من أن تعقد صفقات سياسية تكون المدرسة سلعتها، فتسلم التعليم إلى فئات و قوى حزبية معينة مقابل التأييد السياسي. و لم تدرك أن تلك القوى لم يكن يعنيها تقدم التعليم والمعلم و الإرتقاء بهما، بقدر ما يعنيها الوصول إلى الحكم، و السيطرة على الفكر و الثقافة المجتمعية على طريق تشكيل المجتمع بالشكل الذي تريد، بعيدا عن العقلية العلمية و الفكر النقدي التحليلي و التطلع نحو المستقبل ، بل و بعيدا عن الولاء للوطن و الدستور و القانون ، إذ ربطت الأجيال بولاءات أخرى. وهكذا مع تراجع التعليم تراجعت المجتمعات العربية في العلم و الفكر والثقافة والانجاز و القيم و الوطنية و التماسك و التسامح و غيرها من التراجعات التي نراها في كل مكان. و مهما كانت درجة أهمية الأسباب التي أدت إلى تراجع التعليم، فان المعلم يمثل الركن الأساسي و الأهم في العملية التعليمية التربوية. صحيح أننا نتحدث اليوم عن التعليم والتعلم الذاتي و التعلم مدى الحياة و التعلم عن بعد، إلا أن ذلك لا يلغي الدور المحوري للمعلم ، و لا يقلل من شأنه في هذه العملية. بل ربما العكس هو الصحيح . ذلك أن اتساع و عمق التغيرات في الحياة المعاصرة و تتابعاتها، و سرعة إيقاع “حضارة المعرفة” و ثورة الإتصالات و المعلومات، و متطلبات الإقتصاد الصناعي المعرفي ،كل ذلك يفرض أعباء جديدة على النظام التعليمي تتمثل في ضرورة تهيئة ملائمة، و إعداد متميز للأجيال الناشئة، لمواجهة كل هذه التغيرات والمتطلبات و التفاعل معها بايجابية، و في فترات قصيرة. ومن المستحيل تحقيق ذلك في غياب إصلاح جوهري للتعليم ،و غياب المعلم المؤهل المتمكن. إن المعلم الجيد،صاحب الرسالة التعليمية النبيلة، المتمتع بالمهارات المهنية والإنسانية، قادر على تلافي الأخطاء في المناهج وتقويم اتجاهاتها، وقادر على كسب احترام الطلبة واجتذاب عقولهم، وقادر على إثارة الحماس العلمي والتعلمي والتربوي الوطني في شخصياتهم . و في المقابل، فإن المنهاج الجيد المحدث، مهما كانت التحسينات فيه ،لا يستطيع أن يصل الطالب من خلال المعلم غير المؤهل،كما لا يساعد على إخراج المعلم من أزماته المالية والمهنية والنفسية والمجتمعية. وستتغلب الجوانب السلبية التي يعاني منها المعلم على الجوانب الايجابية التي يحملها أي منهاج محدث. وهذا يستدعي أن تتم مراجعة برنامج إصلاح التعليم الذي يتطلع إليه المواطنون و تضطلع به وزارة التربية والتعليم لتعيد فيه ترتيب الأولويات. فإذا رجعنا إلى شعار اليونسكو الذي ينادي بتمكين المعلم ،فإننا بذلك نتعرف على الخطوة الأولى والجوهرية والحاسمة و الأكثر صعوبة وتعقيدا في إصلاح التعليم وتطويره، ألا هي :” التركيز على المعلم أولا، أي إعطاؤه الفرصة للتأهيل والتدريب واكتساب المهارات الحياتية والمهارات المهنية والمهارات المجتمعية ،وإعلاء شأنه وموقعه في المجتمع، وتحسين أوضاعه الاقتصادية.” فبدلا من تشتيت الجهود في ظل الإمكانات المحدودة المتاحة و الانشغال في المناهج بشكل متسرع و من داخل الوزارة، وإعادة إنتاج الكتب بتعديلات متفرقة هنا و هناك، و إصلاحات ضئيلة في البيئة المدرسية ، ومشكلات الامتحانات وما تستنفذه من الوقت والجهد فيها، وبالتالي يتضاءل تأثير تلك الجهود، فإن الأفضل و الأكثر فاعلية من الناحية العملية، أن تكون المرحلة الأولى من برنامج الإصلاح و للسنوات الأربع القادمة على النحو التالي:أولا المباشرة بإنشاء مراكز متخصصة لتأهيل المعلمين مهنيا و مهاراتيا في مختلف المحافظات و بواقع مركز في كل مديرية تعليم. و تدير هذه المراكز و تشرف عليها مؤسسة مستقلة مشتركة و بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم.ثانيا يتم تكليف مؤسسة وطنية متخصصة لوضع برنامج التأهيل و الذي لا تقل مدته عن 6 أشهر و تساعد الجامعات و المعلمين الخبراء بذلك ثالثا.تكون جميع الجهود وللسنوات القادمة مركزة على النهوض بشأن المعلم في جميع الأبعاد، وإعطائه الفرصة لقفزة نوعية من حالة الضيق المهني والإداري والاقتصادي والاجتماعي إلى حالة المهنية الصحيحة والقيمة الاجتماعية العالية و الوضع المعيشي الجيد سواء كان ذلك في المدينة أو الريف. رابعا تباشر المدارس والجامعات بتدريس الفلسفة والفنون و الرياضة بساعات كافية و اهتمام حقيقي إضافة إلى التوسع في النشاطات اللامنهجية. إن على الدولة أن تخصص موازنة إضافية لا تقل عن 75 مليون دينار سنويا لتنفيذ البرنامج، وعلى وزارة التربية والتعليم أن تستعين بالخبراء و المفكرين و العلماء لمراجعة المناهج بهدوء و روية و عمق و نظرة مستقبلية تساعد على وضع الكتب و النشاطات المناسبة خلال ثلاثة أو أربع سنوات تتيح للمعلم الذي تم تمكينه و أصبح مهنيا مؤهلا أن ينفذ المرحلة الثانية من إصلاح التعليم بثقة و اقتدار، و هذا ما يتطلبه المستقبل.