عروبة الإخباري – أوضح سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عُمان أن مناسبة ذكرى هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت لتحيي الضمائر، وتبعث الأحاسيس والمشاعر.. موضحًا أن هذا الحدث التاريخي العظيم الذي مر بهذه الأمة في بداية تكوينها هو ابتلاء من الله سبحانه ليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
وأشار سماحته إلى أن هذا الحدث الذي نحيا تحت ظلال ذكرياته في هذه الأيام بمناسبة قرب انسلاخ عام هجري جديد واستقبال الأمة عامًا آخر يجب علينا ألا نمر به مرورًا سريعًا عاجلاً، من خلال ذكر وقائعه فحسب ولكن تتجلى عظمة هذا الحدث من خلال النظر في أبعاده، فإنه حدث هيأه الله سبحانه وتعالى لأمر أراد بعباده.. جاء ذلك في محاضرة سابقة لسماحته عن هذه المناسبة الجليلة فإلى الجزء الأول منها:
وأكد سماحة المفتي في هذا السياق أن هذه الدعوة التي بعث بها رسول الله هي كدعوات سائر المرسلين من قبله تهدف إلى وصل الإنسان بربه، هذا الإنسان الذي اختاره الله سبحانه وتعالى من بين سائر مخلوقاته لأن يكون خليفة في الأرض وسيدًا في الكون، وخلق له ما في الأرض جميعًا وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه .حيث إن حركة هذا الإنسان في الوجود وسلوكه في الحياة يترتب عليهما ما يترتب من استقامة أحوال الكون أو عدم استقامتها، إذ الإنسان بسلوكه جعله الله سبحانه وتعالى مؤثرا في أحوال هذا الوجود، فقد يفسد الوجود بفساد سلوك الإنسان وقد يصلح الوجود باستقامة أحوال الإنسان. كيف والله تبارك وتعالى يقول : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
صلة الإنسان بخالقه
وأضاف قائلاً: قد كانت دعوات المرسلين جميعا قبل رسول الله تهدف إلى إصلاح هذا الإنسان بوصله بالله سبحانه وتعالى وجعله مخلوقا يعبد الله عز وجل كما شرع، ويطيعه كما أمر، ويخشاه كما يجب، ويرجوه كما يحق أن يرجى الله سبحانه وتعالى، فإن صلاح الإنسان لا يستقيم أبدا إلا بصلته بربه وذلك من خلال العقيدة الصحيحة، تلكم العقيدة التي تجعل من الإنسان عبدا طائعا لله سبحانه لا يصدر في شيء من الأمور إلا عن أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يقدم على شيء ولا يحجم عن شيء إلا بميزان حق من عند الله يزن به الأمور، فيقدم على ما يراه خيرًا وصلاحًا، ويحجم عما يراه شرًا وطلاحًا.
وهكذا كانت دعوات المرسلين، والله تبارك وتعالى يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، ويقول تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام بعث بهذا المنهج الرباني على أوسع مداخله ومخارجه بحيث كان المنهج الذي بعث به رسول الله يتناول القضايا البشرية جميعا، ويحكّم كلمة لا إله إلا الله التي تجعل الحكم لله سبحانه وتعالى في هذه الأرض، فيجب أن يطاع الله ولو أدى ذلك إلى التجرؤ على غيره، فإن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي فطر هذا الكون، وهو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود، وهو الذي أنعم عليه بالنعم الجلّى العظيمة الظاهرة والباطنة، سواءً النعم الذاتية أو النعم الخارجية، وسواء النعم الحسية أو النعم المعنوية، فإنها جميعًا من عند الله (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ).
منهج رباني
وأضاف سماحته قائلاً: وقد كان القرآن ينزل على النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بما يحقق هذا المنهج من أول الأمر ففي القرآن المكي تجد نحو قوله سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، وهذه القيم التي جاء بها رسول الله ليست نظريات تعيش في عالم المثال، وإنما هي منهج رباني يجب أن يحيا في عالم الواقع، فلذلك كان من الضرورة بمكان أن يوجد المناخ الملائم لتطبيق هذا المبدأ واتباع هذا المنهج وتحكيم هذا الشرع وإقامة هذا النظام.
وأردف قائلاً: ومما لا شك فيه أن الجاهلية وهي في أوج عنفوانها، وفي طغيان قوتها وجبروتها لا يمكن أن تسمح لقلة من المؤمنين مكثورة بالكثرة الكاثرة من المشركين الجاهليين أن تقيم هذا المنهج على ما يراد بحيث تنفذ أحكام الله سبحانه وتعالى، وتطبق دينه في كل دقيقه وجليله بحيث لا يحتكم الناس إلا إلى منهج الله سبحانه، فمن هنا كانت الضرورة داعية وملحة إلى وجود المناخ الملائم لتطبيق هذه الدعوة بحيث تتجسد قيم الإسلام جميعًا في سلوك المسلمين بأسرهم، ويحيا المؤمنون جميعا في ظل الأمان وفي ظل الاطمئنان يعبدون الله ولا يعصونه ويتبعون أوامره ويزدجرون عن نواهيه، ويقيمون العلاقات المختلفة بينهم على أسس متينة من هذا الدين الحنيف وتعاليمه الحقة الربانية.
وأشار سماحة المفتي إلى أن الإسلام جاء ليكتسح بتياره الهادر كل الحياة الجاهلية سواء ما يتعلق منها بالسلوك والأخلاق، أو ما يتعلق منها بالتعامل بين الناس سواء كان هذا التعامل في إطار الشؤون الاقتصادية أو الشؤون الاجتماعية أو غيرها، جاء الإسلام بمنهج متكامل يتنافى كل التنافي مع منهج الجاهلية الذي كان سائدًا في ذلك الوقت، والذي كان مطبقا في جميع الأرض، وإن اختلفت مشاربه وتنوعت ألوانه، فإنه بأسره منهج جاهلي لا يمكن أن يستثنى منه شيء، إذ لم يكن الحكم في ذلك الوقت في جميع أرجاء الأرض إلا لهذا المنهج الجاهلي، وطرق الشر مختلفة، وللخير طريق واحد كما قال عز من قائل: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فكل ما كان سائداً في الأرض يومئذ من مناهج الحياة البشرية إنما هي سبل جاهلية طاغوتية مخالفة لمنهج الله سبحانه وتعالى الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
رسالة عالمية
واسترسل قائلاً: ثم من الناحية الأخرى فإن هذه الرسالة رسالة عالمية ليست رسالة عنصرية، ولا رسالة إقليمية ولا رسالة جنسية، وإنما هي رسالة عالمية تشمل جميع البشر، والله تبارك وتعالى يقول في بعض السور المكية: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) ففي هذا إيذان بأن هذه الرسالة ليست رسالة محلية، وإنما هي رسالة عالمية، فلا بد من أن تكتسح الضلالات في كل مكان، ومعنى ذلك أنه لا بد من وجود قاعدة لها تنطلق منها وهذا أمر يستدعي إلى أن تكون هذه القاعدة تجمع شتاتًا من البشر قد تكون أجناسهم مختلفة، وألوانهم متعددة، ولكن تجمعهم العقيدة الواحدة، فإن الرباط ما بين هذه الأمة ليس هو رباط أرض، وليس هو رباط لون، وليس هو رباط جنس وليس هو رباط قومية، وإنما هو رباط عقيدة، هذه العقيدة تسوي بينهم جميعاً، فلا فرق بين أبيضوأسود وأحمر، ولا فرق بين قوي وضعيف، ولا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا فرق بين بعيد وقريب، وإنما القرب والبعد بحسب امتثال أمر الله سبحانه وتعالى واتباع منهجه أو الابتعاد عن ذلك، فالناس يتفاوت قربهم وبعدهم بحسب تفاوتهم في طاعة الله تبارك وتعالى، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يهيئ المسلمين لهذا الأمر بحيث تجمعهم قاعدة واحدة، هذه القاعدة ينطلقون منها في أرجاء الأرض بعدما تذوب جميع الفوارق التي بينهم، فلا تكون صلة أحد بغيره إلا صلة العقيدة، ولا تكون المودة بينهم إلا مودة في ذات الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك هيأ الله تبارك وتعالى أن يجتمع في هذه القاعدة العربي والحبشي والفارسي وغيرهم من الأجناس التي ذوَّبت العقيدة الفوارق التي كانت بينهم وجعلتهم أمة واحدة.
وأشار سماحته في سياق محاضرته إلى أن العرب أنفسهم كانوا أهل ثأرات وعداوات؛ وقد تأججت نار الخصام بينهم، وصار التعدي فيما بينهم أمرا مألوفا، فلا حياة إلا للقوي، أما الضعيف فإنه معرّض للتلف في أي وقت من الأوقات بسبب سيادة قانون الغاب، فلا شريعة تحكم بينهم، ولا نظام ينصف أحدًا منهم من الآخر، ينصف المظلوم من الظالم، إنما الناس مع القوي، فمن كان قويا كان هو الأولى بالحياة حسب ميزان الناس في ذلك الوقت. وكانت هذه العداوات مستحكمة في نفوسهم حتى أن الآباء والأجداد يورّثونه أولادهم وحفدتهم فترى الصغير ينشأ على هذا الكره وعلى الحقد وعلى هذه العداوة وعلى هذه البغضاء وعلى حب الانتقام من الغير، ويجعلون سفك الدماء ونهب الأموال واستباحة الحرمات من أكبر المفاخر التي يسجلونها في أدبهم الشعري والنثري وينشدونها في مجامعهم ونواديهم؛ لأنهم ليس لهم ميزان يفرق بين حق وباطل وبين هوىً وضلال، فقد عميت أبصارهم وبصائرهم وانطمست أفكارهم فلا يكادون يميزون بين ما هو مستحسن وغير مستحسن؛ لأن فطرهم تعفّنت وطبائعهم فسدت، وهكذا كان الشأن فيما بينهم. وقد استحكمت هذه العداوات وسيطرت على عقولهم وعلى قلوبهم وعلى أفكارهم وعلى وجدانهم، كما يعلم ذلك من خلال مطالعة سيرتهم، وقراءة أدبهم؛ والأنصار- الذين هيأهم الله سبحانه وتعالى لنصرة النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- وإيوائه، وإيواء إخوانهم في العقيدة المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا- قد أخذوا بحظ وافر من هذه العداوات، فكان الصراع ما بين طائفتي الأوس والخزرج منهم صراعا مستحكما، والله تبارك وتعالى ينبئنا أنه بقدرته وحده هو الذي قضى على هذا الصراع وأتلف هذه العداوات التي كانت بينهم، فالله تبارك وتعالى يقول ممتنا على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فالله أصدق القائلين يخبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بأنه لو أنفق ما في الأرض جميعا ما ألف بين قلوب هؤلاء الناس الذين استحكمت العداوات بينهم، فالحروب الطاحنة قد أتت على الأخضر واليابس من ثرواتهم، وأتلفت الوالد والوليد من نسلهم، وملأت صدورهم بالأحقاد، ولكن الله تبارك وتعالى غالب على أمره، فإذا بهذه القلوب المتنافرة تعود إلى التآلف وإذا بهذه البغضاء تتلاشى وتنغسل من هذه الصدور وتحل محلها المودة في ذات الله تبارك وتعالى فتآلفت هذه القلوب على حب الله.
وأشار إلى أن المهاجرين والأنصار أيضا تآلفوا تآلفا عجيبا، واستعلوا على كل الطبائع التي جبلت عليها النفوس البشرية من حب النفس والاستئثار، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذه الهجرة ابتداءً من هذه النفوس فالمهاجرون خرجوا من ديارهم وأموالهم وخرجوا من أولادهم وأهليهم، وتركوا مسارح أحلامهم ومناشئ طفولتهم إلى دار لم يألفوها ولم يسكنوها من قبل، والله تبارك وتعالى يخبر عنهم بقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).