د.ابراهيم بدران/المياه والطاقة… والتجارب الدولية

لعل من ابرز التجارب الناجحة في مسألة المياه ،والتي أضحت مشكلة معقدة للعديد من الدول، تجربة دولة سنغافورة ذات الـ (5) مليون نسمة، والتي تخلو من أية مصادر كبيرة للمياه . وقد أقامت إستراتيجيتها المائية على (4) دعائم. الأولى: الحصاد المائي بالمفهوم الشامل. والثانية:حفظ وتدوير المياه. والثالثة: تحلية المياه. والرابعة استيراد المياه. ويشكل إعادة التدوير و الحصاد وحفظ المياه و تحليتها أكثر من 75% من الاحتياجات المائية والبالغة 82 مترا مكعبا للفرد(بدون زراعة) مقابل 120 مترا مكعبا للفرد في الأردن. و لإن نقص المياه يشكل نقطة ضعف خطيرة في تطور أي مجتمع فقد أقامت سنغافورة “عنقودا من مراكز الأبحاث و التكنولوجيا المائية” لتجعل من نفسها مركزا عالميا في هذا المجال الحيوي. و رصدت لهذه الغاية 330 مليون دولار، و دعت الشركات الدولية لتقوم بأبحاثها هناك .وتعمل اليوم سنغافورة على بناء محطة تحلية مياه ثالثة باستطاعة 120 مليون م 3 سنويا أي تزيد بمقدار 20% عن خط الديسي.
غير أن الإضافة الهامة في السنوات الأخيرة هي دخول الطاقة الشمسية في تحلية المياه. وهذا بالنسبة لنا في الأردن أمر بالغ الأهمية. إذ تقوم حاليا عدد من دول الخليج بإنشاء محطات تحلية بالطاقة الشمسية وعلى نطاق واسع، في حين تعمل السعودية في هذه الفترة على بناء اكبر محطة تحلية مياه بالطاقة الشمسية في العالم وباستطاعة تتعدى 30 مليون م 3 سنويا. وتعمل مصر الآن على الاستفادة المنهجية من خبرات سنغافورة في تكنولوجيا تحلية المياه، و أرسلت الوفود الهندسية و التكنولوجية المتخصصة لهذه الغاية. فهل سيبقى بلدنا معلقا في سراب الانتظار وهو الأكثر احتياجا للماء من أي قطر آخر؟ ألم يحن الوقت لنباشر فورا في إقامة مراكز بحثية و تكنولوجية متخصصة في المياه؟، وأن نباشر في إنشاء محطات لتحلية المياه بالطاقة الشمسية دون أن تكون إسرائيل شريكة فيها.متى سنأخذ تكنولوجيا الإستمطار و التي يزيد عمرها عن 100 عام مأخذا جادا فنبادر إلى إقامة مركز متخصص للإستمطار و توليد المياه من رطوبة الهواء بالطاقة الشمسية فنحسن الإنتاج الزراعي الذي يعاني من التهميش؟
والطاقة الشمسية تعيد إلى الأذهان المشروع النووي المزمع السير فيه دون مبررات علمية واقتصادية سليمة و مقنعة. إذ انه خلال زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي إلى روسيا قبل أيام بمناسبة معرض” ماكس للملاحة الجوية والفضائية” تم توقيع اتفاقية بين الجانبين المصري والروسي على أن تقوم روسيا وشركة “روس اتوم” على وجه التحديد بإنشاء محطة نووية في مصر في منطقة الضبعة على بعد 160 كم غربي القاهرة. وعلينا هنا أن نتمعن في الأرقام. ذلك أن الحمل الكهربائي الأقصى في مصر اليوم هو 30 آلف ميغا واط أي عشرة اضعاف الحمل في الأردن، وستكون استطاعة المفاعل النووي في مصر 1000 أو 1200 ميغاواط. أي أن المفاعل سيكون في حدود 3% إلى 4% من الحمل الأقصى عند التشغيل، وهذه نسبة سليمة جدا من ناحية الهندسية. أما في حالتنا الأردنية فإن الحمل الأقصى لدينا هو 3 آلاف ميغا واط أي 10% من الحمل المصري، ومع هذا سيكون المفاعل 1000 ميغاواط آي 22% من الحمل الأقصى عند التشغيل. وهي نسبة خاطئة جدا من الناحية الهندسية والاقتصادية بشكل قطعي. يضاف إلى ذلك أن المشروع المصري سيكون على شاطئ البحر المتوسط، وهو اختيار منطقي وسليم لغايات التبريد ولمواجهة الكوارث، بينما سيكون مشروعنا في وسط البادية حيث لا مياه متاحة.
إن سنغافورة ،وهي دولة صناعية بالمعنى الكامل، ليس لديها محطات نووية ولا مفاعلات، علما بأن قدرتها التكنولوجية والصناعية تؤهلها للكثير من المشاريع المعقدة والحمل الكهربائي فيها 4 أضعاف الحمل الكهربائي لدينا.
هل يمكن الإفادة من تجربة سنغافورة في تحلية المياه؟ و في إقامة مراكز متخصصة بتكنولوجيا المياه؟ بدلا من التشارك مع إسرائيل في اتفاقية مياه سرية لا يعلم تفاصيلها لا البرلمان ولا الخبراء الأردنيون؟ فتبادر الدولة إلى إنشاء محطات لتحلية المياه في العقبة، ومن خلال استثمارات القطاع الخاص و كما فعلت سنغافورة؟ ويكون مشروع ناقل البحرين مشروعا آخر لا ترتبط به محطات التحلية ؟ وهل يمكن إعادة النظر في اتفاقية الغاز مع إسرائيل والتي بقيت بنودها سرية على البرلمان وعلى الخبراء؟ خاصة وان استيراد الغاز السائل أصبح منتظما؟ وان مصر اكتشفت كميات ضخمة من الغاز لتضاعف من احتياطياتها من الغاز بمقدار 25 مرة.
هل يمكن الإفادة من الحالة المصرية وهي مع نفس المصدر الروسي فتتم مراجعة المشروع النووي؟ والتخلي عن الأرقام الخاطئة؟ والبحث في مشكلة مياه التبريد و حجم المفاعل و البدائل المتاحة بعيدا عن التسرع و الإصرار وبدرجة كافية من الواقعية والمسؤولية؟
لماذا لا نستفيد من التجارب الناجحة للدول ولا نتعلم أيضا من أخطائها؟ فزيادة الإعتمادية الوطنية في المياه و الطاقة ممكنة تماما و جوهرية، ولا تحلها أو تعوضها الإتفاقيات الثنائية السرية الغامضة مع شريك ليس موضع ثقة أبدا. إن المياه والطاقة تتطلب الرؤية والإرادة و المشاريع الصحيحة والمراكز البحثية المتخصصة، و هذه ليست تصورات أكاديمية نظرية بقدر ما هي ركن من أركان المستقبل..

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري