نعم نحن أمام مشهد سوري مختلف. وليد المعلم في مسقط، وموسكو وجهت دعوة للائتلاف الوطني السوري لزيارتها، والأخير وافق على الدعوة. لكن الديبلوماسية النشطة يبدو أنها قاصرة عن الإحاطة بالوقائع، والخلوص إلى أننا على أبواب تسوية في سورية، فيها الكثير الكثير من التسرع.
أولاً، لا يبدو أن تركيا جزء من هذه الحركة الديبلوماسية، أو هي على الأقل ليست في صلبها، وتعمل وفق أجندة مختلفة تماماً. فهي تُعد لمنطقة عازلة في شمال سورية، وباشرت حملة عسكرية على حزب العمال الكردستاني وسيكون حزب «بي يو دي» الكردي السوري جزءاً من أهدافها. بالإضافة إلى فتحها قاعدة «انجرليك» أمام الطائرات الأميركية، وترافق ذلك مع إعادة انتشار نفذتها «جبهة النصرة» في ريف حلب انسجاماً مع الرغبة التركية بالمنـــطقة العازلة. وهذه الوقائع لا تكشف عن رغبة تركية بتسوية قريبة.
الوقائع في دمشق وريفها لا تقول أيضاً ما تقوله الديبلوماسية النشطة. فشل «حزب الله» حتى الآن في دخول الزبداني، ودارية المدمرة المحاصرة منذ سنوات استيقظت على هجوم معاكس كشف هشاشة دفاعات فرق النخبة في جيش النظام السوري. والوقائع القريبة من الساحل السوري، وتحديداً في سهل الغاب لا تشتغل بدورها على وقع تسوية قريبة. دفاعات النظام هناك تتعرض لتصديع يُهدد عصبه في قرى الساحل وفي مدنه.
الجبهة على الحدود مع الأردن لم تشهد منذ نحو شهرين تغيرات كبيرة، لكن وراء هذا الجمود قرار أردني أولاً وأميركي وإسرائيلي ثانياً، بضرورة عدم التسرع في الانقضاض على ما تبقى من بؤرٍ للنظام في جنوب سورية وصولاً إلى ريف دمشق ومروراً بالجولان والسويداء. خصوصاً أن اختباراً بالنار أجري قبل أشهر كشف حقيقة تداعي وحدات جيش النظام، فسقطت الكتيبة 52 في معركة لم يكن الهدف منها إسقاطها بل اختبارها. وبعد ذلك فشل هجوم المعارضة على مدينة درعا بسبب التحفظ الدولي على إسقاطها. وبشار الأسد اعترف في خطابه الأخير بأن جيشه يعاني من مشكلة في التجنيد ومن نقص كبير في الطاقة البشرية.
أما «داعش»، فحتى الآن لم يتلق هزيمة واحدة في المناطق التي احتلها. والجديد على هذا الصعيد هو أن تركيا أجرت مرغمة تحولاً في موقفها منه، والنظام لم يعد قادراً على مزيد من الاستثمار في انتصاراته، ذاك أن لعبة الانسحابات له تم استنفادها إلى حدها الأقصى.
في هذه اللحظة الميدانية، تحركت «الديبلوماسية السورية» وانطلقت مبادرة إيرانية غامضة تم ربطها بموقع طهران الجديد. وصُورت اندفاعة النظام نصراً ديبلوماسياً، فيما حملت مبادرة طهران من الغموض ما يمكن أن يُفسر تنازلات. وفي الحقيقة ليست زيارة المعلم مسقط نصراً ولا تحمل مبادرة طهران تنازلات.
معطيان رئيسيان ما زالا بعيدين عن الحركة الديبلوماسية المستجدة. «داعش» ومستقبل بشار الأسد. الجديد في قضية «داعش» هو الموقف التركي وفتح قاعدة أنجيرليك أمام طائرات التحالف، وهو ما لا يبدو أنه تغيير دراماتيكي تؤمل منه هزيمة وشيكة لهذا التنظيم، وفي أحسن الأحوال ربما شكل بداية طريق مختلفة عن تلك الغارات المملة التي باشرتها واشنطن منذ سنة تقريباً. أما البحث بمستقبل بشار الأسد فهو ما لا يبدو أن طهران بصدده الآن على الأقل، وموسكو أيضاً ما زالت ترى أنه من المبكر تقديم هذه الورقة على طاولة المفاوضات.
مقابل كل هذا، ليس الائتلاف الوطني السوري جهة يمكن التعويل عليها في المقايضات الديبلوماسية على الوقائع الميدانية. فهذه الهيئة لا تمثل شيئاً على الأرض حتى الآن. و «ديبلوماسية» النظام السوري تدرك ذلك، وهي ربما كانت تستدرج تسوية تكشف فيها عجز «الشريك» عن الوفاء بالتزاماته. فالوقائع الميدانية التي تحرك النظام على ضوئها، لا يد للائتلاف فيها. الهزائم في ادلب وفي سهل الغاب ألحقها «جيش الفتح» بالنظام وبحلفائه هناك، وفي دمشق وريفها مجموعات مستقلة لكل منها حساباتها، وهي من دون شك خارج تأثير الائتلاف. أما في الجنوب، فالجبهة هناك تشتغل في حسابات دولية وإقليمية مختلفة تماماً.
النظام في سورية ذهب إلى مسقط، والائتلاف وافق على دعوة موسكو. الطرفان الأقل تأثيراً في المسألة السورية تحركا على وقع ترنحهما بضعف الحيلة. التسوية في سورية لن تكون على طاولة تفاوض ضعفاء الحال هؤلاء. طاولة المفاوضات لن تكون جدية ما لم تضم طهران وأنقرة وعمان، ومن ورائهم واشنطن والرياض وموسكو وتل أبيب.
بشار الأسد قضى على إمكانية دور سوري في التسوية السورية، والمعارضة السياسية فشلت في تحويل هزائم النظام انتصارات للشعب السوري، لا بل إن إفلاسها أدى إلى تحويل هزائم خصمها فزاعة تُرعب العالم.
على هامش هذا الحراك الديبلوماسي المدفوع بحماسة النظام وممانعيه، انعقدت طاولة مفاوضات هامشية في تركيا، فشلت في تحقيق الهدف من وراء انعقادها. فقد كشفت حركة «أحرار الشام» عن أن مفاوضات مباشرة جرت بينها وبين ممثلين عن الحرس الثوري الإيراني، كان الهدف منها تحقيق انسحاب آمن للمقاتلين في الزبداني في ريف دمشق في مقابل انسحاب آمن أيضاً للمقاتلين في بلدتي الفوعة والزهراء الشيعيتين في محافظة ادلب.
التفاوض هنا بدا عارياً من أية أوهام. طهران و «أحرار الشام» مباشرة في أنقرة. لا يتوسط المتفاوضين هنا دمى النظام ولا فراغ المعارضة السياسية. كما أن فشل المفاوضات جاء واقعياً، ذاك أن أوان التسوية لم يحن بعد.
قبل أشهر قليلة، تلقى ديبلوماسي عربي من معارضي النظام في سورية لكنه من معارضي إسقاطه قبل تبلور تــسوية تؤمن بديلاً، إشارة من تل أبيب التي لا تختلف معه كثيراً في وجهته، مفادها أن الاعتراض الدولي والإقليمي على إسقاط النظام قبل تبلور بديل لم يعودا كافيَين، ذاك أن احتمال انهياره من تلقائه أصبح وارداً.
ربما كنا نشهد حراكاً «ديبلوماسياً» على ضوء هذه المعطيات، لكن ذلك لا ينفي أن هذا الحراك يبقى قاصراً عن الإحاطة بالوقائع الميدانية.