عروبة الإخباري –
كتبت صابرين فرعون
يعرض لنا القاص الفلسطيني أحمد أبو حليوة في مجموعته القصصية ” رجل آخر” لوحات ومحطات إنسانية من واقع المجتمع ، ويزاوج في منتجه بين القصص القصيرة والقصص القصيرة جداً “الأقصوصة” ، وصياغة الحوار والخطاب بمنطق تسلسلي لتصوير الحالة النفسية والوعي الباطني للشخصيات ورسم عوالم البناء السردي بدقة وعفوية ..
الأسلوب سهل وشيّق يقوم بصيغة فنية قائمة على السرد والتعديل على الترتيب الواقعي للأحداث ، بحيث يُخرج القاص نصوصه عن السيرة الخاصة كأحداث واقعية من ذاكرته مثلاً ، ويترجمها فعلياً لنصوص مستقلة بهويتها لها خطابها ورسالتها ، مما يجعل القارئ في وضع التأهب للمفاجئة التي تجمع عنوان القصة بنهايتها ثم ربطها بالنسيج العضوي الترتيبي لمجموعة القصص في عملية تحليل وتفكيك وإعادة بناء نصوص ذات موازين تستثير العاطفة والدهشة ..
يبدأ السرد بحكاية “أبو أحمد بلال” وهو يؤسس لمعانٍ ودوال اعتزاز وفخر بوالده خارج سياق النص الأدبي نفسه ، ممهداً لما ينتظر القارئ من مغامرات شيقة في تجربة الكاتب نفسه الذي كان له الصوت الحاضر بصيغة الأنا في كل حكاية .. هذه الحكاية تحديداً غنية بمزاوجة عنصريّ الخطاب الفصيح والحوار المحكي اليومي وتُعد مقدمة يستهل بها نصوصه الأخرى ..
يوظف القاص أيضاً في باب التعديلات على الحدث الواقعي ، الخيال والتوصيف وكذلك التشخيص كما في نص “نقص دفين” : “بدأت السماء السمراء تزدان بزهورٍ ملونة ، من جراء الألعاب النارية الكثيفة التي شق صوتها سكون المكان …”
واستخدم أيضاً أسلوب الاسترجاع الفني “بجزئيات معينة” واعتمد فيها على الأفعال وظروف الزمان بصيغة الماضي موظفاً إياها في اللغة الوصفية كما في نص “حزني الخالد” : “انقضى اليوم الثالث من العزاء ، وتفرق الناس منهين فعاليات ثلاثة أيام من الحزن المؤقت ، كنتُ صغيراً ، لم يأبه أحد بتطييب خاطري ، مع أنني الأكثر حزناً على فقد جدتي …”
أما التناقض في نهاية حملت في طياتها مغايرة ومناقضة بين أمنيات المذيع بليلة سعيدة والخبر المفجع ونقله للخبر وكأنه روبوت بُرمج على نقل الخبر دون الإحساس بصاعقته ، وذلك في قصة “الرحيل” : “هذا وأكدت مصادر أمن بحرية أوروبية غرق سفينة عربية ، ووفاة جميع من كانوا على متنها ، وبهذا النبأ –أعزائي المشاهدين- ننهي نشرتنا الإخبارية متمنين لكم قضاء ليلة سعيدة .. تصبحون على خير” ..
أخذت المجموعة القصصية شكل الطابع الرومانسي لاعتماد القاص أبو حليوة على تصوير الطبيعة ، مما يضفي القوة على اللغة الشاعرية للهرب من النزعة السياسية والتقنينات المجتمعية التي ترتبت على التحول الكتابي الحديث لدى الكثير من المثقفين ، والتحول من تأمل سحر الطبيعة ووجدانيتها في النفس البشرية إلى موضوعات أكثر تعقيداً تبحث في الفكر البشري الذي صار سلاحاً بحدين لصاحبه ، فهو يسعى للتحضر والتمدن ولكنه يقطع التواصل في جوهر الحلول ولا يسعى للتدبر والتأمل في الجماليات الطبيعية وأحياناً يلغيها بشكلها المؤثِر في الحالة النفسية أو حتى كحيز مكاني يوحي ويمد بطاقات ايجابية …
الإحساس بالكلمة لدى أبو حليوة عميق ، فكل نص لم يخلو من إرهاصات الذات بكل اختلاجاتها ، وبرز ذلك في نصوص كثيرة ، أبرزها : “لوحة وداعية” التي استخدم فيها الجناس التام في رسم شخصية القصة ، لوتس ، التي كانت تضفي الفرح على زملائها في كلية الفنون ، في هذه القصة دروس إنسانية في الوفاء والانتماء . كذلك قصة ” الصبر” كان الجناس في الصبر وحباته ، وحبكته توحي بالتمرد على واقع الفقر واستلاب كينونة الإنسان داخل الطفل الذي صار رجلاً قبل أطفال جيله ..
في القسم الثاني من المجموعة القصصية ، كان للأم أقاصيص ، لأنها الدرس الأسمى الذي ينتمي له الإنسان قلباً وقالباً ، فرحاً وحزناً واشتعالاً وحاضنةً …
تنوعت شخوصه على طول الكتاب ، فحكى بلسان الطفل كما في قصة “سباريس” الطفل الذي منحه سبباً كي لا يضعف أمام آلامه واصطاده الموت بكل قسوته ، والشاب في قصة “رجل آخر” التي تتحدث عن واقع الانسلاخ من الوجع والهرب للكتب ، دعوة لعالم الكتاب ، للسمو بالروح والتحرر من عُصارات الذاكرة ، ودوره عجوزاً كما في نص “مأوى العجزة” الذي يطرح فيه قضية تبادل الدور مع كبار العمر وتخيل شيخوخة الجسد والروح …
أحمد عبدالله أبو حليوة ، قاص فلسطيني ، تخرج من قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة دمشق ، يعمل مدرساً في وزارة التربية والتعليم الأردنية ، نشر في صحف ومجلات محلية وعربية ودولية وتُرجمت بعض قصصه للغة الإنجليزية ، مؤسس البيت الأدبي للثقافة والفنون ، صدر له مجموعتين قصصيتين : “سعير الشتات” ، “رجل آخر” ..
المجموعة القصصية “رجل آخر” صادرة حديثاً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ..