عروبة الإخباري – عبد الحميد القائد/ كاتب بحريني –
إنها لا تكتب .. بل تنقش نجوماً على وجه السماء وهي مغطاة بالسحب الكثيفة، تحاكي ما لا يُحاكى وتكتب ما لا يُكتب.. تنقش روحها على البياض ويصبح البياض أكثر بياضا وكأنها تكتب بحبر سريّ لم يُكتشف بعد .. تقرأها وكأنك تسمع موسيقى الأزل ..وتتساءل هل هي تعزف سيمفونية أم تستغيث بظلها في ارتباك سري، أم تتدثر بالعشق والعشق ينأى والحبيب يتوارى. نصوصها غنائية جريئة بجرأة الجنون المبدع، لا تخفي/تخفي/تكشف/لا تكشف عن عوالمها التي تمتد وتتوجع على وسائد الريح وعبث النغمات الهائمة في الملكوت. إنها شاعرة تصعقك/تدهشك بعوالمها ومكنوناتها العميقة/المتعمقة مثل كهوف الجبال البعيدة، ربما تصل إليها، ربما تضيع معها في التيه ولكنك تخرج مبتسما/ربما حائرا/ ربما متشظيا بمفرداتها الغريبة/البسيطة/المغلقة تارة، الكاشفة عن نفسها تارهً أخرى. أيها السادة افتحوا الأبواب والنوافذ والحصون والأقفال، هنا شاعرة بحجم القلب، تأتي حاملة كنوز سليمان وجراح «ولّادة ابنة المستكفي»، تأتي شاعرة تحمل إبداعا متميزا لتنهي زمن البوار الشعري الذي شهدته الساحة منذ فترة… إنها نادية الملاح، الشاعرة البحرينية التي تتعاطى مع الكتابة وكأنها تتعاطى مع أسرار الحياة وطلاسمها بثقة العرّاف وحيرة المستجير وتطلق حروفها لتستحيل إلى أجنحة تطير بها إلى ما وراء الوراء. شاعرة مستقلة – كما تقول – لا تنتمي إلى أية جمعية، تكتب وتكتب لتشعر بأنها تتمسك بأهداب الحياة بتحد وإصرار، تصهل مثل خيل مسته النار وتغني مثل كائن مغسول بأمطار الفرح. في كتاباتها وجع خفي لكنها تحوله إلى قمر مضيء في الفضاء. شاعرة بحرينية لا بد أن نفخر بها لأنها حملت اسم البحرين في برنامج «أمير الشعراء» وتأهلت لمرحلة العشرين وهي مرحلة البث المباشر، ودخلت التصفيات النهائية. كما أنها شاركت في شاعر المليون المخصص للشعر النبطي وأجيزت من قبل اللجنة لكنها لم تتأهل. إنه اختراق حقيقي وأصيل لشاعرة نبتت في أرض دلمون.. أرض الشعر ووطن طرفة بن العبد شاعر المعلقات الذي كان ينتمي إلى هذه الجزيرة الأصيلة الولّادة. نادية الملاح، التي تحمل البكالوريوس في اللغة العربية – دبلوم التربية من جامعة البحرين وتعمل مدرسة لغة عربية، صدر لها ديوان « مرثيّةٌ راقصة… لملاكٍ لم يُخلقْ بعد » وهي بصدد إطلاق ديوانها الثاني «رقصة أخرى … ونعود حيث اللحن الأول»، ربما لا يكون هذا العنوان نهائيا حسب قولها. رغم اختلافي المبدئي معها، لا تميل نادية الملاح إلى اعتبار قصيدة النثر شعرا أو تعتبرها نوعا أدبيا وإبداعيا مختلفا حسب ما قالته في لقاء أجري معها مؤخرا: «لا أذكر أني قيدت قلمي يوماً ما، أكتب النثر منذ أمد، وهو متلازم مع كتابة الشعر، فاللحظة تفرضُ لون الكتابة، والعنان فيها متروك للحرف أنى شاء أن يتجه، مع تحفظي على مسمى قصيدة النثر الذي يرى فيه كثيرون حال تخلف عندي، لكني على قناعة تامة بأن هناك لوح زجاج بين فني الشعر والنثر، كلاهما له خصوصيته ورونقه وبهاؤه، لكن الخلط بينهما مازال لا يجد القبول عندي. في النثر ربما يكون الفضاء أكثر اتساعاً من الشعر، حيث التجرد من قولية النص، لكنه يستند إلى الشعر في كثير من حيثياته ودقائقه، أنا في كليهما نادية، فلا ينتقص النثر من طاقة الكاتب، ولا يتوّجه الشعر، لأن المعول في نظري على جودة النص لغة وشعوراً وصياغة وجمالا». أنا حسب رأيي الشخصي (إن جاز لي أن أعبر عن رأيي هنا)، أن القصيدة وشكلها هو ما يفرض نفسه في لحظة معينة، ربما تخرج القصيدة عمودية، تفعيلية، نثرية، فصحى أو عامية حسب الظرف واللحظة الإبداعية. هل يمكننا أن نقول مثلا بأن ما كتبه الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج ليس شعرا، لأننا في هذه الحالة سوف نتجنى على حقيقة ناصعة كالشمس. الشعر لا يميزه الوزن أو التفعيلة لكنه يتبدى في الإبداع الحقيقي، التجلي، التشظي والخلق. كتابة قصيدة النثر في رأيي أصعب بكثير من قصيدة التفعيلة لأنها تعتمد على التكثيف والموسيقى الداخلية الخفية/الظاهرة والرؤى. الوزن أو التفعيلة تقيد الشاعر ويضطر إلى التخلي عن معان كثيرة حفاظا على الوزن، والشاعر مثل العصفورة لا تحب القيود ولا الأسوار. الشاعر كائن متمرد على الأنظمة/الأسوار/القيود .. حتى على الأفق مع احترامي لرأي الشاعرة. إننا إذن أمام شاعرة تقول الكثير، شاعرة ننتظر منها الكثير لتطلي فضاءاتنا بلون جديد وإبداع باذخ.
في قصيدتها «إلى رجلي»، تبدع نادية الملاح، وتحلق بنا إلى آفاق عميقة الغور حتى يتوقف الكون أخيرا وتغرد العصافير فوق الأشجار قائلة للعاشق المتكبر/المتجبر: «تبت يداك».
قدري أراكَ… ولا أراكْ
وأَصولُ ذاهلةً أُترجمُ ما عَراكْ
وأوشوشُ الريحَ التي في نبضها
بعضُ ارتباكْ
حتى إذا ما صادفتْ
من طيفك العاتي رؤاكْ
باحت بما ينتابني
ورجتْك شيئاً مِن قِراكْ
أو بعض ماءٍ مَسَّهُ لونُ الشفاهِ
وما رواكْ
فأشحتَ مزهوَّاً بما قد صابني
ماذا عَراكْ؟!
أنسيتَ أني من هويتَ لأجلها
حين الهوى فيها اصطفاكْ!
أم قد نسيتَ بأنها
باعتْ سماها والثرى… تبغي رضاكْ
يوماً تراها عذبةً كالماءِ
أو نوراً…مَلاكْ
سبحانَ ربٍّ بدَّلكْ
لتقول غيَّــاً قد طواكْ
أُنثاك كانت تستغيثُ بظلِّها
حتى رأتْكَ ولا سواكْ
فتدثَّرتْ بالعشق لمَّا أزهرتْ عطراً غشاكْ
والنايُ أرهفَ سمعَهُ لوميضها في كبرياكْ
كانتْ
وما زالتْ تحوكُ من المدى
ظلاً جناكْ
قفْ واستعذْ بالعشق مما تدَّعي
هبها صَباكْ
واعذرْ نزيفاً كان سوَّر نبضها… وارمِ الشِّباكْ
ستجيء راكضةً
تـَضمُّكَ والدموعُ عِتابُها:
تــَــبَّـــتْ يداكْ!