الأب رفعت بدر/لا نريد علاقات كرتونية ولا نظرات فوق كونية

تكثر هذه الأيام مظاهر الاحتفال بالعيش المشترك في الوطن الواحد.
وبمناسبة الشهر الفضيل – رمضان– قد كثرت ولائم الإفطار المشتركة التي تعبّر بلا شك عن النسيج الاجتماعي المترابط والقوي في المملكة الأردنية بقيادته الهاشمية الحكيمة. ومن أشد الافطارات تأثيراً في النفوس، هي ما عقد في مركز سيدة السلام لذوي الحاجات الخاصة، الأمر الذي دأب عليه المركز منذ تأسيسه قبل أكثر من عشرة أعوام. ذلك أن الجوهر في الإفطار هو التركيز على الإنسان المتألم والفقير والضعيف، وهو بلا شك أقوى تاثيراً في النفوس، مع أن ولائم الإفطار التي تجمع بين الأغنياء وأصحاب الجاهة والوجاهة لها أيضا مكانها ومكانتها في المجتمع الأردني لمزيد من المودة والأُخُوّة بين المؤمنين عامة.
لا داعي للتذكير، بأنّ رمضان هذا العام يأتي في وقت تمر فيه الأمة بأحلك حالاتها وأسوئها على الإطلاق، وهي مرحلة التشرذم الكبرى، وإطلاق العنان لقوى التعصب والغلو والإلغاء والإقصاء لكل ما هو آخر بالوجود وإحداث الخراب والدمار والتهجير، وبالأخص في بلدان عربية شقيقة مثل العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا وغيرها.
أمّا نحن في الأردن، فالحمد لله على نعمة الأمن والاستقرار. والعلاقات الثنائية بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية مؤسسة على صخر متين، وعلى أسس فكرية وثقافية وحضارية باتجاه تأكيد دولة المواطنة والمساواة الدستورية. ولكن أخذ بعضنا يركز، مع الأسف، على إقامة علاقات “كرتونية” فيها نوع من الديماغوجية والمزايدات السطحية البعيدة عن حقيقة الحوار والمودة والأخوّة الصحيحة.
على مدار يومين، تغنت وسائل الإعلام الإلكترونية بهذه العلاقات الكرتونية، مثل:
أولاً: الإعلان عن آذان المغرب الذي رفع من إحدى الكنائس. وفي الوقت الذي نحيي فيه الكاهن والرعية والحضور، فإن وسائل الإعلام قد التقطت خبرًا خاطئًا وهو أنّ الأذان قد تم رفعه في داخل الكنيسة، وتناقله العديد من الجمهور وبالأخص أصحاب الفيسبوك، ليقولوا هذا هو الأردن وهذا هو التعايش… والحقيقة أنّ صلاة المغرب قد تمت في “ساحة” الكنيسة ولم تتم “في داخل الكنيسة” كما تغنى شعار الفيسبوك …
ومن ثم لا يجوز أن تتعدى المزايدات في المجالات حدودًا نعرف أنّ المودة الصحيحة والأُخُوَّة الصحيحة تقوم باحترامها لا بتجاوزها. فلا تقام صلاة المسيحيين في المساجد، ولا صلاة المسلمين في الكنائس. ولا يجوز التدني في المجاملات إلى درجة الخلط بين الأديان. المجتمع الرصين والعادل والآمن يحترم حرمة الكنائس والمساجد على السواء ولا يخلط بينها، كما لا يخلط بين الديانات.
هذا ما يجعل التعددية راقية وقائمة على التنوّع والاحترام المتبادل. أليس التاريخ يتغنى بعمر بن الخطاب الذي لم يقبل الصلاة داخل كنيسة القيامة، وإنما إلى جوارها؟ ألسنا نتغنى بنصوص التأسيس القائمة على الاعتراف والإقرار بوجود الآخر وبحقه بإقامة شعائره الدينية في أماكنه الخاصة به؟ فلماذا تطنطن وسائل الإعلام الإلكترونية بأنّ الآذان رفع من كنيسة وهو لم يرفع وهو أمر غير متاح، لا صلاة المسيحيين في المسجد ولا صلاة المسلمين في الكنيسة.
كما طبّل البعض وزمّروا قبل أيام لصورة “اشبينة في العرس على رأسها حجاب” وتدخل الكنيسة مع زميلات لها وصديقات. الأمر الذي تم التصفيق له وكأنه من أعاجيب الدنيا، وكأنه جديد على عقليات شعبنا، وبالمناسبة الصورة ليست من الأردن بل من بلد عربي شقيق، وعمرها عامان، إلا أننا أحببنا أن تؤكد لنا على الأكيد والمؤكد… فهل بتنا نبحث عن امرأة مسلمة تحضر اكليلا لنقول بانّ الدنيا بخير ، الأمر يا سادتي طبيعي واكثر من الطبيعي…
ثانياً: ازدحمت مواقع الكترونية لدينا بصور وأخبار عن جاهة مسلمة قصدت بيتًا مسيحيًّا، وطلبت يد ابنة للزواج، فصار لهم ما جاؤوا له، وشربوا قهوتهم، وأعلنت الفتاة تغيير ديانتها، ليتم الزواج، وتليت آية من الإنجيل وآيات من القرآن، وجاءت الأخبار تزف البشرى بأن بلدنا هو بلد التسامح والمساواة والتعايش…
فتاة تعلن تغيير ديانتها وتطلب يدها من والدها “الأرمني” الذي لا يسكن في جرش وإنما له مزرعة هناك… ويقول رئيس الجاهة بأنّ الأمر كان سهلاً جداً وأكلنا كنافة… صحتين وعافية يا سعادة النائب، ولكن كان الأجدر أولاً احترام مشاعر الناس في شهر مبارك، ثم التفكير قليلاً بأنّ بلدًا يحتضن المهجّرين من الموصل، بسبب تعسف “الخوارج” واعتدائهم على طقوسهم وكنائسهم وبيوتهم وأطفالهم، حريّ باحترام المشاعر الدينية لأبنائه وبناته، بدل جرّ إحدى بناتهم إلى تبديل دينها وفي بث حي ومباشر، وكأنّ الأمر مريح للسكان والمواطنين.
وهنا نأتي إلى قضية شائكة وهي الزواج بين المسيحيين والمسلميين. من المعروف أن العائلة خط أحمر في مجتمعنا الأردني وفي مجتمعاتنا العربية، لا يجوز تجاوزه. والسبب بسيط لأنه ما يحق للمسلم لا يحق للمسيحي. من يقدر أن يحوّل الشريعة في الإسلام فيستطيع المسيحي أن يطلب يد ابنة مسلمة ويبقى مسيحيا؟ ما زال هذا الأمر غير ممكن في الإسلام، فهو غير ممكن أيضًا في المسيحية. وما دام زواج المسلمة من المسيحي غير جائز، وزواج المسيحية من المسلم أمرًا جائزًا ، فهذا يعتبر بالأحرى استضعافًا للمسيحي. ونحن نعرف المآسي التي تثار في مثل هذه الحالات في مجتمعنا الأردني وفي كل مجتمع عربي.
وفي هذه القضية قضية أخرى، هي قضية الحربة الدينية بمعنى حرية الضمير أعني أن يكون قرار الإيمان في يد الفرد المؤمن وحده لا في يد المجتمع المؤمن، أي يجوز للفرد المؤمن أن يؤمن بالدين الذي يريده فيخرج من الإسلام إلى المسيحية أو من المسيحية إلى الإسلام، بحسب قناعته وضميره. وهذا أمر غير جائز في مجتمعنا الأردني وفي بلداننا العربية. إذًا نحن أمام خطوط حمراء، للمسيحي وللمسلم على السواء. إلى أن تتطور الأمور وتمر أجيال ويصبح الفرد يومًا، الرجل أو المرأة، مالك نفسه، وليس المجتمع هو المقرر له، لا بد من أن نحترم حدود الدين في كل من الإسلام والمسيحية، بالإضافة إلى تقاليد المجتمع.
القضايا كما نرى أعقد من أن نذهب بها في مجاملات سطحية مهما كانت النوايا حسنة. فأمام النوايا الحسنة حدود الدين في الإسلام وفي المسيحية على السواء وهي التي تحكم وليس المجاملات أو حسن النوايا. وإن حصل تجاوز من غير مأساة، نحمد الله ونرثي لإنسان عدل عن دينه عن غير قناعة أو فلنقل “اعتنق دون أن يقتنع” ، وإن حدثت المأساة وهذا هو الغالب، على العقلاء من الطرفين أن يهبوا لتهدئة الأمور بما هو ممكن، ومن غير أن يستضعف أحد أو يظلم أحد في دينه.
ولهذا من الضروري أن نعود إلى تعليمات جدّدها قبل أشهر قليلة سماحة قاضي القضاة وتنص على أنه لا يجوز قبول إسلام كتابي، لأغراض دنيوية، مثلا لغرض الزواج فقط ولا لقناعة شخصية. ولذلك فإنّ إشهار الإسلام في هذا الظرف وبهذه الطريقة، قبل التوجه إلى شهر العسل في تركيا، هو مناقض لحدود الدين ولنصوص وقعت عليها أعلى سلطة دينية في المملكة.
أقول هذا مؤكداً على أنّ ما يجمعنا في هذا الوطن أكثر ممّا يفرقنا، فلدينا قيادة حكيمة لجلالة الملك، ووعي شعب كريم، وتاريخ مشترك حافل… ولسنا بحاجة إلى تأكيدات ورقية وكرتوينة بأنّنا بخير، وبأنّ مجتمعنا سيبقى الأنموذج الأكثر تاثيرًا إيجابًا على دول المنطقة، بل وفي العالم. وأنّ الأجدر بنا عوضًا عن التوقف عند بعض المظاهر البراقة، بأن نركز على ما هو أعمق من ذلك، مثلاً على التغيير في المناهج الدراسية الذي بات مطلبًا رسميًّا وشعبيًّا عارمًا، إذ إنّ الإغفال عن ذكر التاريخ المشترك والتعددية الدينية الراقية في المجتمع، لا يخدم السلم الاجتماعي ولا رحلة العيش المشترك الصلب المتين.
وكذلك كان الأحرى بالجاهة المتوجهة إلى “مزرعة الأرمني” في جرش أو من استقبلها، ولا أظن أحداً قد حضر من طرف والد الفتاة، أن يركزوا على تفعيل مضامين رسالة عمّان وكلمة سواء. رسالة عمان وكلمة سواء تقولان نقيض ما أقدموا عليه، أي الاحترام المتبادل.
نحن نعيش في بلد آمن أمين، مبني على مبدأ العائلة الواحدة. بالمودة الحقيقية، وبالاحترام المتبادل، وبتكوين شخصية قوية محترِمة للدين في الذات وفي ذات الآخرين ولو اختلفوا، وبتطبيق مبادئ رسالة عمان وكلمة سواء، نستطيع، ونحن قادرون، أن نزيد أردننا مودة وأمنًا وأمانًا.

 

شاهد أيضاً

تأثير الصادرات على النمو الاقتصادي* رعد محمود التل

عروبة الإخباري – تُعتبر الصادرات من أهم المحركات للنمو الاقتصادي في الأردن، حيث تلعب دوراً …

اترك تعليقاً