عندما يعجز المجتمع الدولي، بحكوماته وقوانينه ومنظماته، عن حمل إسرائيل على إنهاء أطول احتلال في العصر الحديث، بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة؛ وعندما تعجز الحكومة الفلسطينية عن تحقيق الحلم الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة على التراب الفلسطيني؛ تمارس منظمات المجتمع المدني الفلسطيني دورا بطوليا سلميا لمقاومة الاحتلال، بدأ بإثارة قلق حقيقي لدى صانع القرار الإسرائيلي. وهي تقدم مثالا لما يستطيع المجتمع المدني الفلسطيني فعله سلميا، وربما بفاعلية أكبر، على المدى الطويل، من المؤسسات الرسمية الفلسطينية.
الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها؛ أو ما أصبح يعرف بحركة “BDS”، أسست العام 2005 من قبل 170 منظمة مجتمع مدني فلسطيني، وذلك عندما أصبح واضحا أن الجهود الدولية كافة لإنهاء الاحتلال لم تنجح، بسبب التعنت الإسرائيلي، وغياب الإرادة الدولية لإنهاء هذا الاحتلال غير الشرعي وغير الأخلاقي. وتهدف الحركة إلى إقناع منظمات المجتمع المدني العالمية بمقاطعة إسرائيل وسحب استثماراتها منها، والضغط على حكوماتها لفرض عقوبات عليها لاستمرارها في الاحتلال، من دون أدنى اكتراث بالحقوق الفلسطينية. وتشبّه الحركة نفسها بالجهود الدولية ضد نظام الحكم العنصري في جنوب أفريقيا، والتي ساهمت إلى حد كبير في الضغط على ذلك النظام للتفاوض مع المواطنين الأصليين السود، وإنهاء نظام “الأبارتهايد”.
كانت إسرائيل وما تزال تنعت أي جهد من هذا القبيل باللاسامية، رغم أن حركة المقاطعة يدعمها العديد من اليهود. وقد استعملت إسرائيل هذا الأسلوب بنجاعة في أوروبا والولايات المتحدة اللتين تحكمهما عقدة نقص من موضوع اللاسامية، لمحاربة المقاطعة العربية في السابق.
بعد مرور 48 عاما على الاحتلال، ووضوح عدم جدية الحكومة الإسرائيلية، وخاصة برئاسة بنيامين نتنياهو، لإنهاء الاحتلال، بدا العالم الغربي أكثر استعدادا لقبول مبدأ المقاطعة وسحب الاستثمارات، وأقل اكتراثا بالتهديدات الإسرائيلية.
فمنذ بدء الحملة قبل عشر سنوات، أصبح واضحا أن استمرار التعنت الإسرائيلي يقابله ازدياد ملحوظ في تقبل المجتمع الغربي لفكرة المقاطعة. وعلى سبيل المثال، فقد تزايدت توجهات الاتحاد الاوروبي بوضع إشارة على بضائع المستوطنات لتحذير جمهور المستهلكين الأوروبيين قبل شرائها. وفي العام 2013، قررت مؤسسة الدراسات الأميركية الأكاديمية، في خطوة غير مسبوقة في المجتمع الأميركي، مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية كافة، وتمكنت من الصمود أمام كل الاعتراضات الإسرائيلية. وانضم العديد من المشاهير للحملة، أمثال الأسقف ديزموند توتو الحائز على جائزة نوبل للسلام، وعالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكينغز، والعديد من مشاهير هوليوود، وغيرهم.
هذه الحملة باتت تقلق إسرائيل؛ فقد وصفها نتنياهو بأنها هجوم منظم ضد إسرائيل، ووعد برصد 100 مليون شيكل لمجابهتها، وهو يقوم بتصويرها على أنها ناجمة عن العداء للسامية. بل إن صحيفة “يديعوت أحرونوت” وصفتها بأنها “خطر وجودي”، في حين أنها تهدف للتوصل إلى حل الصراع بموجب القرارات الدولية، وبالطرق السلمية.
آخر هذه الجهود في شهر رمضان المبارك، كان نشاطا تطوعيا في طولكرم، لدعم المنتج الوطني ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، تحت شعار “الإفطار الحلال ليس من صنع الاحتلال”. وهناك جهد مواز في الأردن، من خلال إنشاء منظمة أهلية باسم “حركة الأردن تقاطع”، وهي ناشطة في العديد من القضايا، منها حملة ضد توريد الغاز الإسرائيلي.
مرحى لهذا الجهد الخارق والمنظم والسلمي، صاحب النفس الطويل، والذي بدأ يؤتي ثماره بوضوح، ويثبت قدرة المجتمع المدني على التغيير من خلال العمل المنظم والجماعي.