ليس هناك من مرة تقتضي اتخاذ إجراء معين إزاء مشروع كبير أو صفقة استيراد، إلا ويقع المواطن في حيرة كبيرة وضياع كامل بين الحقيقة والإشاعة، وبين المسؤولية والتهرب منها، وبين الجهة ذات الاختصاص والحكومة. و تمر أسابيع و أشهر، والآراء تختلف والإشاعات تنتشر والتصريحات تتوالى بقوة، وفجأة بعد ذلك ينتهي الأمر وكأن شيئا لم يكن دون معرفة الحقيقة على وجه الدقة.
منذ مدة ونحن مشغولون بشحنة القمح. هل هي فاسدة؟ هل تحتوي على عفن وديدان؟ هل تسرح وتمرح فيها الفئران كما قالت شركة الصوامع؟ هل هي صالحة للأكل والاستهلاك البشري؟ أم ينبغي إرجاعها؟ وهل تقرير مؤسسة الغذاء والدواء يمكن الاعتماد عليه؟ أم انه محل شك وبحاجة إلى مراجعة و تمحيص؟ وهل ينبغي أن تتدخل رئاسة الوزراء ومتى؟
وقبل بضعة أشهر فقط، كانت هناك اسطوانات الغاز المستوردة من الهند وعدم مطابقتها للمواصفات. وكان الأخذ والرد والنفي والإثبات من مؤسسة المواصفات والمقاييس والمستورد للاسطوانات وشركة مصفاة البترول. وانتهى الموضوع بأن ذهبت الاسطوانات إلى ايطاليا . أما لماذا ايطاليا و ليس الهند بلد المنشأ؟ و هل اشتراها وكيل ايطالي ليصلحها و يعيد تصديرها إلينا كمنتج أوروبي؟ ومن تحمل الخسائر وماذا حل محلها من اسطوانات ؟ لا أحد من المواطنين المتابعين للشأن العام يدري.
وكذلك ميناء الغاز السائل، فقد تأخر عن موعد تسليمه سنتين كاملتين، تكبد قطاع الطاقة خسائر بمئات الملايين ،تحملها المواطن و زادت أعباء الإقتصاد. لماذا و من يتحمل المسؤولية؟ و هل كانت إشكالات هندسية أم مالية أم إدارية ؟ أم فساد و عدم اكتراث؟ لا أحد يدري رغم أن الميناء بدأ العمل التجريبي قبل أيام فقط.
والباص السريع قصته أكثر عجبا. تم توقيف المشروع قبل سنوات، وقيل في حينها هناك خطأ في القرار، و أخطاء هندسية وخطة غير مدروسة، بل وفساد استوجب إلغاء المشروع .وبعد هدوء وصمت لفترة ،تجدد الحديث عن المشروع والتأكيد أن الباص السريع يمثل حلا لمشكلة النقل في العاصمة، ونشطت الاتصالات مع الجانب الفرنسي للدراسة والتنفيذ بعد الحصول على التمويل من فرنسا. ما هو الخطأ السابق؟ وما هو الفساد المالي أو الفني أو الإداري في مشروع الباص السريع الذي استوجب التوقف؟ لا احد يدري.
لماذا تتدخل الحكومة وليس القضاء والخبراء في مثل هذه الحالات؟ لماذا لا تكون الجهة الرسمية المخولة بالعمل هي الجهة المرجعية الوحيدة وعليها أن تتحمل المسؤولية بشفافية؟ ومن جانب آخر، و نحن في عصر المعلومات و الإتصالات المفتوحة ، لا يستطيع المواطن أن يهضم التصريحات المجزوءة و العبارات غير الصحيحة علميا وفنيا ، التي تصدر عن هذه المؤسسة أو تلك،على غرار القول الذي صدر عن مؤسسة الغذاء والدواء “بأن نتائج الفحوصات التي أجرتها المؤسسة تمثل العينة التي تم فحصها فقط” وماذا عن البقية ؟ و هل سيأكل المواطن من العينة التي فحصتها المؤسسة فقط؟ أم أن نتائج الفحص ينبغي أن تصل إلى نتيجة قاطعة: القبول أو الرفض والأمثلة كثيرة على مشاريع أو صفقات مشوشة. لا احد يعلم من هو المسئول .
وحتى لا تكون ملاحظاتنا مجرد تكرار لما يدور في أذهان المواطنين، على أهمية ذلك، فإن مثل هذه المشاريع والأحداث والمواجهات تتطلب ما يلي أولا: أن تصدر المؤسسة المعنية بالإجازة أو المنع تقريرا واضحا في نهاية كل عملية حتى يطمئن المواطن إلى أن النتائج النهائية سليمة و قانونية، ولم تكن هناك تدخلات اضطرت المؤسسة المسئولة لأخذ موقف معين، أو تغيير نتائج لصالح جهة من الجهات، أو مراعاة خاصة للمستورد. ثانيا: أن تقوم المؤسسة المعنية بمراجعة إجراءاتها في الكشف والفحص حتى تستكمل أية نواقص في منظومة الإجراءات، وحتى تكون نتائج فحص العينات معبرة عن كامل الشحنة التي سيتعامل معها المواطن لا مع الجزء الذي جرى عليه الفحص ثالثا: أن تقوم المؤسسة المعنية ووزارة الصناعة والتجارة بلفت نظر المستوردين إلى الإضافات أو التعديلات الجديدة وأية مواصفات آو شروط إضافية ينبغي التزام الجهة الموردة بها. رابعاً: أن تكون هناك في رئاسة الوزراء أو في ديوان المحاسبة “دائرة فنية على مستوى الخبراء” تتابع المشاريع الكبيرة، سواء كانت تعاقدية للشراء، أو للإنشاء أو غير ذلك،و تصدر التقارير حول متابعاتها للمشروع.خامسا : أن تصدر هيئة مكافحة الفساد بيانا تحدد فيه ما توصلت إليه من نتائج عند وجود شبهة فساد، حتى تكون هناك قناعة لدى المواطنين بأن الحكومة جادة في مكافحة الفساد، قبل وأثناء وقوعه، وليس بعد وقوعه فقط.
إن المعلومات الدقيقة الصحيحة في موعدها من شأنها أن توفر عشرات و مئات الملايين من الدنانير على المواطنين وعلى الإقتصاد الوطني، و من شأنها أن تعزز الثقة بين المواطن والحكومة و تساعد على الانتقال إلى الأفق المستقبلي للدولة الحديثة التي تعتبر المساءلة ومشاركة الجمهور أحد أركانها الرئيسة.