كان يوم الجمعة الماضي يوماً داعشياً بامتياز، ضرب فيه التنظيم الإجرامي ضربات دموية مروعة في ثلاث قارات، استقطب على وقعها الأذهان والأبصار، وصنع من خلالها عناوين مثيرة، ملأت شاشات التلفزيون، واحتلت صدارة الصحف، واستحكمت بالحوارات المكتومة، وبعثت بأسئلة مقلقة في كل مكان، ليس في سياق هل، بل حول أين ومتى ستكون الضربة التالية، طالما أن لدى هذا التنظيم، الذي يحتفل بالذكرى السنوية الأولى لإعلان “الخلافة”، عددا لا يحصى من الذئاب المنفردة، وصفوفاً طويلة من الخلايا النائمة، وفوق ذلك كل هذه الدافعية الذاتية للتمدد في الأراضي الرخوة.
ومن أجل تغيير الصورة التي تشكلت عنه مؤخرا، كتنظيم فقد قوة زخمه، وراح يتراجع مرتبكاً أمام زحف القوات الكردية، أدمج “داعش” عملياته الإرهابية الثلاث في الكويت وتونس وفرنسا، بهجمات ميدانية صاعقة، قوامها عدة كتائب مدججة، هادفة إلى وقف التقدم الكردي المنسق مع ضربات التحالف الدولي، كان أكثرها إثارة تلك الإغارة الانتقامية المفاجئة على “عين العرب” (كوباني)، حيث البلدة التي سجلت أول انكسار في سلسلة اتنصارات “داعش” المتتالية.
ولعل السؤال المركزي، الذي فاض على ألسنة كل من قضت مضاجعهم رؤية أذرع “داعش” الأخطبوطية وهي تضرب هناك وهنالك بلا رحمة: من ذا الذي سيتصدى لهذا التنظيم العابر للحدود والحالة هذه، طالما أن تحالف الستين دولة (اسم على غير مسمى) لم يثبت نجاعته في هذه المواجهة المفتوحة في الزمان والمكان، وأن الدولتين المخاطبتين بتحدي البقاء، مجرد البقاء، أي سورية والعراق، تفشلان وتتآكلان باطراد، وتنهاران بتؤدة؟!
صحيح أن مختلف دول العالم باتت مخاطبة بتهديد ما يسمى “الدولة الإسلامية”. إلا أن من الصحيح أيضاً أن خطورة هذا التهديد متفاوتة بتفاوت قرب هذه الدولة أو تلك من مركز دائرة الدولة المتوحشة، ناهيك عن الوزن السكاني والاقتصادي والعسكري، أو غير ذلك من المعطيات المؤهلة لأي من العواصم المعنية بأخذ زمام المبادرة، وخوض غمار مواجهة قد تتجاوز آثارها المباشرة حتى قدرات الدولة العظمى الوحيدة، المصابة بعقدة فشل تدخلاتها السابقة.
وعليه، فإن سؤال من سيتصدى لتنظيم “داعش”، سيظل معلقاً في الهواء بلا إجابة. فليس هناك في زمن حروب الجيل الرابع دولة راشدة لديها نية تدخل. فإذا ساورتها هذه النية، فليس لديها القدرة. والدولة التي لديها مثل هذه القدرة ليس لديها الإرادة، وحتى إذا امتلكت الإرادة، فإنها قد ترى ألا مصلحة لها في المواجهة. وإذا ما رأت هذه المصلحة في نهاية المطاف، فإنها ستعد إلى العشرة، وربما إلى العشرين، وستتذرع بجملة من الاعتبارات الداخلية المانعة، بما في ذلك الرأي العام المناهض للحرب، إذا لم تكن هذه خياراً اضطرارياً.
أدهى من ذلك كله، أن البدائل غير المتاحة واقعياً، في إطار التصدي لـ”داعش”، تنصب كلياً على تجديد حرب المفاهيم، وتحديث القيم والمثل والخطاب، ناهيك عن المبادىء الضاربة عميقاً في الجذور الثقافية والدينية والتربوية، فضلا عن بعض ترهات هذا التراث الممتد على مدى أكثر من ألف وأربعمائة سنة، الأمر الذي لا تشفي هذه البدائل معه غليل النفوس القلقة، ولا تهدئ من روع الهواجس الطاحنة، لاسيما وأن الحواضن الاجتماعية لهذا الفكر الموغل في تشدده، لا تستمع إلى خطابنا الإعلامي؛ لا تقرأ صحفنا ولا تشاهد برامجنا الحوارية، وتعيش في عوالمها الخاصة المغلقة، بل وتتعالى علينا.
واقعيا، ليس هناك اليوم، ولا في الغد المنظور، دولة مؤهلة لجبه “داعش”. فالولايات المتحدة المعول عليها دائما، تغيرت عما كانت عليه قبلا؛ إذ كلّت سيوفها الطويلة، وفقدت شهيتها المفتوحة للحرب (هناك من يتهمها بتوظيف “داعش” خدمة لمصالحها الكونية). أما الدول العربية ذات العيون البصيرة والسيوف القصيرة، فليس لدى أي منها الرغبة أو القدرة، أو حتى المصلحة، للتورط في حرب مكلفة بشريا وماديا، الأمر الذي لا يتيح لها سوى اتباع سياسة الحذر والتحوط، والإمساك عن التهور، جنبا إلى جنب تعزيز قوة الردع والصد، وتعظيم مقومات الحصانة الداخلية، بالمزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتربوية، من دون تردد.