بدأت المحطات التلفزيونية، الأرضية منها والفضائية، منذ مساء يوم أمس، عرض نحو مائة مسلسل تم إنتاجها خصيصاً لشهر رمضان، أسوة بما كانت عليه الحال في السنوات الطويلة الماضية؛ إذ يتنافس المنتجون والممثلون والمعلنون، على تقديم أفضل ما يستطيعون تقديمه من أعمال فنية باذخة، في إطار ما بات يعرف باسم “الدراما الرمضانية”، التي عادة ما تستقطب قاعدة مشاهدين أوسع بكثير مما تجتذبه المسلسلات في بقية أشهر السنة. وهو ما يعتبر فرصة سانحة، لتحقيق أجور أعلى، وعوائد إعلان أجزل للمحطات التي تدفع حقوق بث باهظة، جراء تزاحمها على الفوز بقصب العرض أولا، وميزة الانفراد في بعض الأحيان.
وأود قبل الخوض في غمار هذه المسألة، أن أضع ثلاث ملاحظات استدراكية. أولاها، أنني لست من المتابعين للمسلسلات التلفزيونية، لا في رمضان ولا في غيره، إلا ما يخص فقرات الكاميرا الخفية، التي يصح تسميتها بالكاميرا الصريحة. وثانيتها، أنني لا أشاطر أصحاب الخطاب الديني رؤيتهم التقليدية، المناهضة للمنتج الثقافي وللفن بكل صنوفه وتلاوينه، خصوصاً فن التمثيل. أما الثالثة، فهي تحفظي على كل تعميم ظالم في أصله وفصله ضد سائر العروض، لاسيما أن الاحكام المطلقة كثيراً ما تكون غير صحيحة وجائرة، وظالمة بكل تأكيد.
ولعل الإشكالية الأولى في إطار هذه المعالجة، أنها تكاد لا تخاطب أحداً بعينه، خصوصاً في بلد مستهلك للإنتاج التلفزيوني، ولا يسهم إلا في أدنى الحدود في صناعة المسلسلات والمواد الفيلمية التي تشبه مجتمعه وتحاكي حياته. فضلاً عن ذلك، فإن المشاهدين الذين أدمنوا مشاهدة مثل هذه الدراما، المحتشدة بكبار الفنانات والفنانين، وبالأضواء المبهرة والملابس المثيرة، لم يعد في وسعهم الانقطاع عن هذه العادة المستحكمة، ولا الإقلاع عنها بسهولة، أمام حملات الترويج المشوقة لكل ما هو جديد.
وقد تكون أكثر الأسئلة إلحاحاً في هذا المقام، هي: لماذا يتم حشد كل هذا الكم من المسلسلات غير الدينية، وما الحكمة من بثها في شهر الصوم والتدين هذا، دون غيره من أشهر السنة؟ وما هي الرسالة التي يود المنخرطون في هذه الأعمال الفنية المكلفة، إيصالها إلى ملايين المتلقين، إذا كان الأمر لا يتعدى الترويح عن النفس والتسلية؟ وأي صورة يرغب كل هؤلاء وأولئك في إعادة بنائها، ومن ثم تسويقها، عن الشخصية العربية، التي تبدو في هذه المسلسلات شخصية مفتتة، سطحية ومستلبة؟
نقول هذا كله من دون أن نلقي بالاً، بعد، إلى المحتوى الذي يتم عرضه على الآباء والأمهات، وعلى الشباب والشابات من مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية؛ حيث يجري خلط الغث بالسمين، والأعمال الجادة مع نظيراتها الهابطة، ويتم اجترار ذات الحكايا القديمة بوجوه وأشكال جديدة، من غير رقيب من ضمير منتج لا يهمه في كثير من الحالات سوى الربح، ولا من حسيب ذي مرجعية قانونية أو أخلاقية، في زمن بات يستحيل فيه المنع والمصادرة، بعد أن دخلنا في عصر الفضاءات المفتوحة وشبكة الاتصالات العنكبوتية.
ورغم كل هذه التحفظات التي لا تقدم ولا تؤخر، ولا تنهي ولا تزجر، وهذه الأسئلة المسكونة باليأس والتسليم بمستجدات هذه المرحلة الخارجة عن نطاق السيطرة والتحكم، فإن هذه ليست دعوة إلى فرض الرقابة المسبقة على الفن، الذي هو أرقى منتج يصنعه الإنسان المتحضر، ولا يخطر في البال المطالبة بتكوين شرطة ثقافية عجزت عن إقامتها أعتى الأنظمة الشمولية، باستثناء كوريا الشمالية. بل كل ما في الأمر أننا نطالب بتحصين الوجدان العام ضد ما قد يتسلل إليه من عوامل تشويه، ومدخلات سلبية مؤذية، تزيد الطين المبلول بلّة.
ومع الحرص الشديد على عدم التساوق مع دعاة الكراهية ضد الفن، بما فيه فن التشخيص على وجه الخصوص، وعدم التماهي مع الخطاب الرجعي المعادي لكل إبداع، بما في ذلك النحت والتشكيل والموسيقى والباليه، فإن المسؤولية الضميرية المتطهرة من كل غرض ذاتي، تدعونا إلى ضرورة إجراء المراجعات اللازمة، وفق سلم من القيم الرفيعة، والمعايير الموضوعية الراقية، يقوم عليها أهل الفن والمبدعين أنفسهم، لعل ذلك يساعد في ضبط مقاييس الجودة، التي ترفع من سوية الذائقة والجمال والحب، وتسهم في إعادة بناء الصورة والرسالة والشخصية العربية، المرغوب في رؤيتها على الشاشة صباح مساء