كانت الآمال كبيرة والطموحات عالية، حين انطلقت الثورة العربية قبل 99 عاما بقيادة الحسين بن علي،بإقامة دولة عربية واحدة تضم دول المشرق العربي و تعيد للعرب حريتهم و كرامتهم. و كان الاعتقاد لدى قادة الثورة و رجالاتها أنه خلال أقل من 50 عاما سيستعيد العرب مكانتهم الحضارية و الإنسانية بين شعوب العالم و يساهموا في بناء أوطانهم و دولتهم على أسس متينة من المواطنة والعدل والمساواة والعلم والقانون.و بذلك يدخل العرب ساحة التاريخ من جديد كقوة فاعلة بعد أن خرجوا من ساحة الفعل و البناء و الإبداع ربما منذ سقوط بغداد أو قبل ذلك بسنين .
دخل هولاكو التاريخ ليس كأحد حكام منغوليا ، و إنما كأكبر غاز ومدمر للحضارة القائمة في العصر الوسيط واجتاح بغداد عام 1258 ميلادية ، ولم يلبث في المنطقة العربية أكثر من بضع سنوات. ومع هذا استطاع خلال تلك الفترة القصيرة أن يدمر أهم المعالم الحضارية في العراق و بلاد الشام ،بما في ذلك المساكن و المشافي و قنوات الري و المكتبات وفي مقدمتها دار الحكمة في بغداد. و كان يحرق الكتب ويقتل آلاف الضحايا والأبرياء لا لشيء، إلا لإثبات القوة والقدرة على الحكم والسيطرة، ولرفض بغداد أن تسلم له وتدفع الجزية.
و حين يتأمل المواطن ما يجري في المنطقة العربية ، هل يختلف عن ما وقع قبل 757 سنة ؟ ما يجري الآن هو دخول عربي قميء للتاريخ، ولكن هذه المرة من بوابة هولاكو. وهي بوابة القتل والتدمير وجنون القوة والتشبث بالسلطة والتكالب على الحكم حتى آخر مواطن الذي أصبح لا قيمة له. وهي بوابة انعدام الوطنية و تلاشي الإنسانية وتشويه الأديان والمذاهب. حتى الآن تم قتل وجرح أكثر من (5) مليون مواطن في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان كما تم تهجير ونزوح ولجوء أكثر (10) مليون مواطن حتى أصبحت المنطقة العربية أكبر مصدر للمهاجرين واللاجئين، وأكبر منطقة حروب وكوارث إنسانية في العالم . هل قتل هولاكو (5) ملايين إنسان ؟ كلا. وهل دمر مئات الآلاف من المنازل والمدارس و المصانع والمزارع والمستشفيات والمرافق ؟ كلا. تفاوتت الأرقام التي ذهبت ضحية هولاكو وغزوه الهمجي بين (100) ألف وبين مليون إنسان. و هي أرقام متواضعة في مقاييس همجية اليوم العربي المعاصر. ففي سوريا وحدها قتل حتى الآن رسمياً (230) ألف مواطن و جرح مئات الآلاف. وفي العراق أكثر من مليون، و في ليبيا أكثر من (150) ألف واليمن كذلك.
و إذا كان هولاكو قد جلب جنوده القتلة معه من بعيد، فعاثوا فسادا و تدميرا في أرض ليست أرضهم ،و أمعنوا قتلا و أسرا وسبيا في شعب ليس شعبهم ،و نهبا و سلبا في وطن ليس وطنهم، فمن هم جنود” الهوالك” الجدد ؟ و من أين جاءوا ؟ و أي دم يسري في عروقهم؟ و أي فكر و ثقافة تسبح فيها عقولهم؟.
هل يمكن الظن أن العرب وخلال مئات السنين لم يتعلموا شيئا اسمه الوطنية؟ وشيئا آخر اسمه الإنسانية؟ وشيئا ثالثا اسمه العقل والحكمة؟ و رابعا اسمه تجارب الأمم و دروس التاريخ ؟. ومن المؤكد انه لا يوجد شبيه في العصر الحديث لبعض الحكام العرب الذين يسرقون أوطانهم لسنوات وسنوات ويصرون على استمرارهم في الحكم والسلطة والعبث والظلم والإستبداد و المحسوبية والفساد ،و إلا.. فتدمير البلاد بأكملها و تقتيل وتشريد العباد ، باسم الحكم تارة وباسم الطائفة تارة أخرى وباسم الدين تارة ثالثة. ومن يقاتل مع هؤلاء الحكام؟ أليسوا انداس عاديون من ذات الوطن؟
مهما تكن الأسباب والتفسيرات لما يجري في الدول العربية التي تأكلها نيران الحروب الأهلية والتصدعات الداخلية، فإن فشل الدول و الحكومات، وقصور الأحزاب والقوى السياسية، و إخفاق الأنظمة التعليمية والتربوية والثقافية في تأصيل مفاهيم الوطن و تجذير المواطنة وتعزيز ثقافة و قيم الدولة الحديثة في الضمير الفردي و المجتمعي تأتي في المقدمة . هل يمكن تكوين حركة شعبية لإيقاف حالة التدمير الذاتي؟ إن انتماء المواطن و إخلاصه لوطنه بكل ما فيه ومن فيه،و انتماء الإنسان العربي لشعبه و بلده بإنجازاته الحضارية،و ليس لحاكمه المستبد أو شيخه أو مستأجره، يتطلب الكثير من الفكر والعمل والجهد والبناء المتواصل. و هذا هو التحدي أمام الحكومات والأحزاب و النخب والعلماء والمثقفين. وهو المدخل للمستقبل و دخول التاريخ من جديد