تتزايد المفاجآت في المنطقة العربية على عتبة التحوّل الجغرافي – السياسي في الشرق الأوسط المتجّه نحو إنماء علاقة أميركية – إيرانية تتعدى مجرد التهادنية فيما العلاقة الأميركية – الإسرائيلية تبقى تحالفية بامتياز بغض النظر عن بوادر الاختلاف، وفيما العلاقة الأميركية – العربية بمختلف عناوينها من الخليج إلى أفريقيا مروراً بالمشرق وبلاده الممزقة يشاء الأميركيون أن يقولوا أن الرأي العام الأميركي لا يكترث بما يحدث في المنطقة العربية وأن الكلام عن أدوار أميركية في التغيير الرهيب الذي يحدث منذ حفنة سنوات كلام ذهنية «المؤامرة». أما العرب بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم فإنهم «واثقون» أن السياسة الأميركية هي التي تتلاعب بالمنطقة العربية وتقودها إلى التقسيم والتفتيت والشرذمة. الواضح هو انزلاق الثقة وصعود الشكوك في العلاقة الأميركية – العربية في خضّم تموضع إيران شريكاً للولايات المتحدة يمكن الاعتماد عليه. شهيّة إدارة الرئيس باراك أوباما تتميز بالشراهة إزاء العروض الإيرانية وترقية العلاقات الثنائية. إلا أن التطورات الميدانية تثير أحياناً تساؤلات حول ما إذا كانت المباركة الأميركية الصامتة للأدوار الإيرانية في البلاد العربية موافقة على الطموحات الإيرانية أو توريطاً كي تصبح سورية – وربما أيضاً العراق – بمثابة فيتنام لإيران وحلفائها. ما يفعله تنظيم «داعش» في العراق وسورية مدهش والمدهش معه هو «تسليم» الجيش العراقي وجيش النظام في دمشق إلى «داعش» مناطق فائقة الأهمية جغرافياً وسياسياً. دخول قوات «الحشد الشعبي» التي تسمى أحياناً «الميليشيات الشيعية» في العراق إلى منطقة الأنبار سوية مع الجيش العراقي لمواجهة «داعش»، تطوّر خطير يضاعف القلق والشكوك. ما يحدث في العراق وسورية ليس منفصلاً كلياً عما يحدث في اليمن حيث «التحالف العربي» يتصدى بقيادة سعودية للنفوذ الإيراني عبر الحوثيين وحليفهم الحالي الرئيس السابق علي عبدالله صالح. وما بين طيات الحروب الطائفية والقبلية في المنطقة العربية تعود مشاريع التفتيت والتقسيم إلى الواجهة ويعود معها الكلام عن «بترولستان» أو «شيعستان» متماسكة، وكردستان مستقلة و»سنّستان» ممزقة.
بين ما أهم ما قيل علناً هذا الأسبوع في أعقاب استيلاء «داعش» على الرمادي عاصمة الأنبار جاء على لسان الجنرال الإيراني المسؤول الأول عن «الحرس الثوري»، قاسم سليماني. فهو غلّف رسالته الأساسية بالانتقاد الضروري للولايات المتحدة التي «لم تفعل شيئاً» لمساعدة الجيش العراقي للتصدي لـ «داعش»، و «ليس لديها إرادة لقتال» هذا التنظيم، وهي تنشئ «ائتلافات كاذبة»، بحسب تعبيره.
أما رسالته الأهم فإنها أتت بقوله انه «ليس هناك سوى الجمهورية الإسلامية في مواجهة هذه الظاهرة الخطرة» وأن الحرب على «داعش» هي «مصلحة وطنية». كلامه مهم لأن ما تريده طهران هو إقناع واشنطن بأنها هي الوحيدة القادرة على هزيمة «داعش» وليس التحالف العربي أو الدولي أو السنّي. ما تريده طهران هو أن تصبح حليف الأمر الواقع الوحيد للولايات المتحدة التي وضعت الحرب على «داعش» في طليعة أولوياتها. تريد طهران أن تقول لواشنطن إن عليها عدم معارضة تواجدها على الأرض العراقية أو السورية، بصورة مباشرة أو عبر الميليشيات الشيعية في العراق و «حزب الله» في سورية ولبنان. فهناك على الأرض، وليس بالقصف الجوي، يمكن القضاء على «داعش»، تقول طهران، وعلى الأرض ليست هناك قوات سعودية أو خليجية.
بالتالي، إن ضمن الأولويات الإيرانية أن تقتنع واشنطن بأن الطموحات الإيرانية الإقليمية ليست توسعية وإنما هي ضرورية.
واشنطن تبدو شبه مقتنعة بالطرح الإيراني وهي ترى أن مصلحتها تقتضي غض النظر عن الأهداف التوسعية الإيرانية والتركيز حالياً على الشراكة معها ضد «داعش» لا سيما أن طهران ترى أن مشروع «داعش» يشكل خطراً وجودياً عليها وينسف مشروع ما سمي «الهلال الشيعي» جغرافياً.
ذلك المشروع كان برز خلال عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش بالذات على أيدي «المحافظين الجدد» الذين رأوا أن الاستراتيجية الأميركية يجب أن تقوم على دعم ذلك الهلال لأنه في المصلحة الأميركية والإسرائيلية. أدوات التقسيم في رأي «المحافظين الجدد» قبل حوالى عشر سنوات شملت أدواراً لـ «القاعدة» ومثالها، أي، «داعش» الآن، لتقوم بأدوار تخريبية في المنطقة وتساهم في مشاريع تقسيم العراق وتفتيت سورية.
الرئيس الحالي باراك أوباما مرّ بمرحلتين: الأولى في مطلع ولايته عندما احتضن فكرة النموذج التركي وتولي «الإخوان المسلمين» الحكم في مصر وغيرها من الدول العربية معتبراً ذلك تشجيعاً للإسلام «المعتدل» في مواجهة التطرف الإسلامي. ثم في مرحلته الثانية، قرر باراك أوباما أن المصلحة الأميركية تقتضي التفاهم مع ملالي طهران فلبّى كل الشروط التي أملاها الملالي تحت عنوان تشجيع «الاعتدال» في إيران كما قدّمه النظام بعباءة الرئيس حسن روحاني. القاسم المشترك بين إدارة أوباما و «المحافظين الجدد» في إدارة بوش انهما يتفقان على مشروع «بترولستان/ شيعستان» وما يتطلب من تقوية لإيران وإضعاف الدول العربية التي تواجهها وتقسيم الأراضي العربية وتفتيتها. فهذا في المصلحة المشتركة لكل من إيران وإسرائيل وأيضاً تركيا لأن إخراج العرب من موازين القوى الإقليمية يشكل مصلحة مشتركة للثلاثة.
من هنا، إن المصلحة العربية تقتضي حتماً ألا يرتكب أي من القادة العرب خطأ استراتيجياً يؤدي إلى إضعاف التعافي العربي في موازين القوى الإقليمية. فعلى الإعلام المصري وليس فقط القيادة المصرية والرأي العام عدم الانزلاق إلى المزايدة أو المكابرة على المساهمة الخليجية في إنقاذ مصر وتمكينها قيادياً واقتصادياً. وعلى الدول الخليجية التنبه إلى الحساسيات المصرية لتتفهم أسباب التردد المصري في المعركة على اليمن. فهذا ليس وقت المحاسبة وإنما هو وقت جردة واقعية لمستلزمات الشراكة الخليجية – المصرية وحمايتها من التآكل أو الانهيار. والمسؤولية تقع على أكتاف جميع المعنيين بهذه الشراكة.
ما سمعه القادة الخليجيون أثناء قمة «كامب ديفيد» قبل أسبوعين مع الرئيس باراك أوباما بخصوص اليمن لم يكن متفهماً لأهمية الحرب في اليمن من المفهوم العربي أو الخليجي. رأي مستشاري أوباما في هذا الملف هو أن إيران ليست مساهماً أساسياً في اليمن، وهي لا تتدخل في شؤونه الداخلية، وأن علاقتها عسكرياً لدرجة تمكين الحوثيين من الانقلاب على الشرعية الذي قاموا به. رأي أوباما ومستشاريه أن السعودية والدول الداعمة لها في «التحالف العربي» أفرطت في تضخيم حدث اليمن وأنه لم يكن ضرورياً دخولها طرفاً في هذه الحرب. وهذا يتناقض جذرياً مع التفكير العربي بأن حرب اليمن كانت في منتهى الضرورة لوقف الزحف الإيراني على الدول العربية، وأن لا مجال للخسارة في اليمن على الإطلاق لأن ذلك يهدد الأمن القومي.
ما حدث عندما زار الخليجيون واشنطن و «كامب ديفيد» هو انهم وجدوا الرئيس الأميركي في كامل الانصباب على الأولوية الإيرانية وأن رسالته الأساسية كانت أنه لن يُسمَح لأي كان بتخريب الاستراتيجية الأساسية وهي: إيران إيران إيران.
وبحسب المصادر، لم يسمع أوباما لغة الحسم التي توعّد بها الخليجيون. فهم لم يطالبوا، مثلاً، بإنشاء مناطق منع حظر الطيران في سورية من أجل نقلة نوعية في دعم المعارضة السورية المسلحة المعتدلة. اكتفوا بالسماع من أوباما أن أولويته هي مواجهة «داعش» كيفما كان، وأن دعمه لقوى المعارضة المعتدلة لن ينتقل إلى مرتبة جديدة، وأنه لن يتورط. رأي مستشاري أوباما هو أنه إذا كانت إيران و «الحرس الثوري» أو «حزب الله» الوسيلة لدحض «داعش»، فليكن. وإذا كان الرئيس بشار الأسد هو الأداة، فليكن. باراك أوباما لن يتورط في حرب سورية. فليخُض «حزب الله» الحرب مع «داعش» وليكن هلاكهما معاً، وليُنهك معهما الأسد ونظامه ولتتفتت سورية. واشنطن لا تبالي.
السياسة الأميركية نحو العراق، كما سمعها الخليجيون، هي أن الأولوية هناك أيضاً لمواجهة «داعش» على أيدي أيّ كان. فإدارة أوباما قررت ألاّ تتنبه لأخطار تمكين «الحشد الشعبي» على أيدي إيران ليكون ميليشيات تابعة لها تعمل في أراضي العراق، ولذلك قررت واشنطن ألاّ تفهم أن «تسليم» الجيش العراقي الرمادي إلى «داعش» بلا مقاومة شرسة كان سيؤدي بالضرورة إلى استنجاد بالميليشيات الشيعية في معركة عاصمة الأنبار السنّية. بكلام آخر، دخلت إيران الأنبار العراقية. ولهذا دلالات خطيرة.
مغامرات «داعش» في العراق وسورية مثيرة للتساؤلات بسبب سهولة إنجازاتها. هذا التنظيم الغامض الخلفية بوجوهه الملثمة ربما نشأ في السجون السورية والعراقية ثم تم إطلاقه عملياً على أيدي بشار الأسد ورئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي – وكلاهما حليف لإيران – بهدف تلويث الثورة السورية. بعد ذلك أصبح «داعش» «شركة مساهمة» دولية يستثمر فيها كوكتيل مخابرات لأهداف متناقضة ومتطابقة. الغريب أن جميع المساهمين يتصرف بلا خوف من هذا التنظيم الذي يدب الرعب والهلع في القلوب العادية.
مرحلة معقدة وصعبة جداً آتية على المنطقة العربية. أخطاء القيادات العربية ضخمة. الأفكار الإيرانية وجدت راعياً لها اسمه باراك حسين أوباما، الذي اعتبره «الإخوان المسلمون» سنداً لهم.
ليت الفيديرالية تشق طريقها إلى الاستراتيجيات العربية الواقعية. فهذه أفضل السيناريوات مقارنة مع مشاريع التقسيم والتفتيت والتشرذم في المنطقة العربية.