تابعت عن كثب يوم الخميس الفائت، وقائع اجتماع مجلس وزراء الإعلام العرب في دورتهم السادسة والأربعين. التي عقدت بمقر الأمانة العامة للجامعة العربية. واستمعت إلى كلمات ومداخلات العديد من الوزراء ومسؤولي الجامعة العربية.. وما لفت انتباهي فيها أن ثمة إدراكا عميقا لديهم لحقائق معضلات وتحديات المشهد الإعلامي العربي. ويتفقون مع كثير من رؤى الخبراء والباحثين حول خطورة استمرارها ليس على المشهد ذاته، وإنما على حالة الأمة ككل.. بحسبان أن الإعلام بمختلف وسائطه بات واحدا من أهم المؤثرات. في مسارات السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع وغيرها.. وتساءلت ما الذي يحول دون أن ينفذ هؤلاء الوزراء. بحسبانهم أعلى سلطة مسؤولة. لتصوراتهم وخططهم وإستراتيجياتهم بخصوص تفعيل الأداء الإعلامي؟ هل ثمة قوى خفية تدفع باتجاه غير ما يدفعون هم إليه؟ أم أن وسائل الإعلام أضحت خارجة عن السياق. بحكم ما تتمتع من حرية نسبية.. ربما كل هذه الأسباب مجتمعة.
إن المشهد الإعلامي العربي.رغم التحولات النوعية التي طرأت عليه خلال العقود الأخيرة. خاصة العشرين عاما المنصرمة. ما زال يواجه بعض التشوهات وجوانب الخلل في بنيته وتوجهاته.. وحتى قدرته على الوصول إلى المتلقي على نحو يدفع إلى الاقتناع برسالته أو برسائله التي تحاصره على مدار الساعة. وبالتالي هو في حاجة إلى إحداث تغيير في محتواه وأدواته ووسائله وتبني مناهج تكون أقرب إلى الأبعاد الأخلاقية.
لقد ضاعت البوصلة من العديد من الوسائط الإعلامية العربية. فأخذت تنأى بنفسها عما يطلق عليه الإعلام التنموي. أي الهادف. الذي يعمق وعي المواطن العربي بقضاياه الجوهرية ويدفعه دفعا للانتماء إلى الوطن وإلى الأمة ليس عبر الشعارات الجوفاء ولكن عن طريق بث المضامين والمحتويات. التي تتناول من خلال الأشكال الإعلامية المتعارف وبالالتزام بحرفية المهنية. وبقواعد السلوك الأخلاقي والحس الوطني والقومي.. والتعبير الأخير للدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة في كلمته التي خاطب بها وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم الأخير. فلم يعد يليق بالمشهد الإعلامي العربي في المرحلة الراهنة. التي تكتنز فيها الأمة بأنواع المكابدات والمؤامرات سواء من الداخل أو من الخارج. خاصة من طرف الكيان الصهيوني أن يظل أسير الاستغراق في الغيبيات.. وترديد الحديث عن الجن والعفاريت والسحر الأبيض والأسود. وتقديم أنواع من الدراما والأعمال الفنية التي تروج لأنواع متعددة من الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي. وما يصحبها من إبراز الغارقين في هذا الفساد بحسبانهم نماذج ساطعة. لأنهم يحققون عبر وسائله غير الأخلاقية . وجاهة اجتماعية وفي بعض الأحيان حضورا سياسيا. فضلا عن امتلاك ناصية الثروة ومن ثم تبقى هذه النماذج المهترئة في جوهرها هي التي تسعى قطاعات واسعة من شبابنا إلى الاقتداء بسلوكها.
والمرء يحار أمام هذه الوسائط الإعلامية العربية. التي لم تعد تبدي حماسا للقضايا العربية الكبرى وفي مقدمتها القضية الفلسطينية . فعلى سبيل المثال فإن عددا محدودا منها عالج بشكل أو بآخر مرور 67 عاما على نكبة فلسطين. وقضية شعبها التي غدت في ذيل اهتمامات هذه الوسائط. فلم تعد النبأ الأول أو حتى الثاني أو الثالث. بل في كثير من الأحيان. من فرط الأحداث الناجمة عن الأزمات المتعددة. لا تكاد تذكر وقائعها رغم خطورة ما تفعله حكومة قطعان بني صهيون الشديدة التطرف. التي يقودها بنيامين نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني واعتداءاتها المتواصلة ضد مقدساته. على نحو يخصم من رصيد الهوية الحضارية الإسلامية والعربية للقدس خاصة ولقدس أقداسها – المسجد الأقصى..
واللافت أن معالجة الكثير من وسائطنا الإعلامية للقضايا والملفات الساخنة في المنطقة الراهنة. تتسم بقدر كبير من التبسيط المخل في بعض الأحيان.. خاصة فيما يتعلق بالقضية الأهم.. وهي تمدد التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية، على نحو جعلها رقما مهما في المعادلة الوطنية والإقليمية . ومن ثم فإن “هناك حاجة- كما يقول الدكتور العربي أيضا- إلى توظيف الكلمة الصادقة باعتبارها أمضى سلاح في الحرب الشاملة التي تخوضها الدول العربية ضد جماعات الإرهاب المدمر، هذا العدو المشترك الذي يمس أوطاننا وعقيدتنا وثقافتنا ويعيق وتيرة التنمية في بلداننا، والتصدي له بكل الوسائل المتاحة ولكافة أنماطه ومنابع تغذيته والمحرضين عليه خاصة الإرهاب الفكري الذي بات يستهدف أساسا فئة الشباب الطاهر النقي ليحول العقول والذهنيات إلى آلات صماء تستعمل للهدم والتخريب بدل البناء والتعمير”.
وذلك يستوجب – حسب رؤية الدكتور محمد المومني وزير الدولة لشئون الإعلام بالأردن أن تمتلك وسائط الإعلام العربية القدرة على لعب دور حاسم في مواجهة الفكر المتطرف والحيلولة دون تمكينه من التأثير في الرأي العام، مما يسهل تجفيف منابعه ومحاصرته تمهيدًا لتصفيته. وبالتالي فإن مهمة الإعلام المنتظرة في مكافحة الإرهاب وتداعياته تتطلب إمعان النظر في المستقبل وتنفيذ الإستراتيجيات العربية الإعلامية المتوفرة وفتح نوافذ التفكير لمواجهة آفة التكفير والنظر في محتوى المنتج الإعلامي الموجه للجمهور والتصدي لوسائل الإعلام التي تمارس أدوارًا تحريضية مدمرة.
وإذا كان ثمة دعوة ملحة لتجديد الخطاب الديني. فإن الإعلام مناط به الدور الأهم في هذا السياق. لكنه للأسف لم ينطلق بعد نحو هذا الهدف بالقوة والنوعية المطلوبة. فالمساحات المخصصة لمعالجة هذا الجانب محدودة. وتكاد تنعدم في بعض الوسائط على نحو وفر بيئة مواتية لغياب الفكر الإسلامي الصحيح.. وأحيانا يشاهد أو يسمع أو يقرأ المرء المضامين الدينية في بعض هذه الوسائط. ما يوحي بأنها تتحدث عن منطقة أخرى عير منطقتنا العربية. وإن كانت ثمة محاولات تقوم بها بعض القنوات المتخصصة. والتي بدورها هي في حاجة إلى تنقية مضامينها بما يعمق قدرتها ومهاراتها وأدواتها. في تقديم الإسلام الوسطي المعتدل غير الموغل في الماضوية. والمرتبط بأحوال الناس وتحفيزهم على بناء قدراتهم الإنتاجية. وإقامة الحكم الرشيد وتكريس مقومات المواطنة بعيدا عن المنطق المذهبي أو الفئوي الضيق والذي يضر بالإسلام. وبمحدداته الحضارية التي لم يستغلها بعضنا على النحو الذي يجعل من الأمة رقما مهما في المعادلة العالمية. القائمة على القوة بمختلف مكوناتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية وغير ذلك..
والملاحظة الجديرة بالتوقف لديها في سياق الحديث عن إشكالية الإعلام العربي. تتمثل في أن الجانب الثقافي والفكري غائب. أو بالأحرى مغيب في عدد لا بأس به من وسائطنا الإعلامية العربية.. فهل ذلك مقصود أم هو تعبير عن توجه النخب السياسية، التي تخشى رفع منسوب ثقافة وفكر المواطن العربي؟ أيا كان الأمر. فإن البرامج ذات المضامين الثقافية الجادة والملتزمة ضئيلة للغاية لا تتسق مع الحاجة المتعاظمة لدى هذا المواطن لإشباع جوعه إلى مادة ثقافية وفكرية. تعمق شعوره بكينونته الإنسانية وبجوهره الروحي.. وهو ما يجعلني أطالب هذه الوسائط بعدم التخلي عن هذا المنحى المهم. خاصة أنه في فترة الستينيات كانت ثمة نهضة ثقافية وفكرية واسعة لعبت فيها وسائل إعلام هذا الزمان.. رغم محدوديتها- الدور الأهم والأمة لديها أشواق لاستعادة هذا الدور. لإعادة صياغة الوضعية الثقافية والفكرية في ظل المتغيرات المتسارعة. بما يليق بالمشروع الحضاري والنهضوي لها.