علي بدوان/النكبة ومعنى المخيم الفلسطيني

تَدخُلُ نكبة فلسطين عامها الثامن والستين، والحالة الفلسطينية مُثخنة بالجراح والآلام، في الداخل وفي الشتات، حيث النكبة الثانية لفلسطينيي سوريا، في مخيم اليرموك وغيره من التجمعات الفلسطينية، التي تم استهدافها خلال تلك الحرب الهمجية.
في ذكرى النكبة، غَدَت المخيماتوالتجمعات الفلسطينية في الداخل والشتات عنوانًا، ورمزًا يُلخص قصة أليمة، وحكاية لمأساة شعبٍ بدأت خيوطها تُنسج مع ولادة القضية الفلسطينية ووقوع النكبة الكبرى عام 1948، وفي المقدمة منها قضية اللاجئين الذين يُمثلون أكثر من (65%) من تعداد الشعب الفلسطيني أكثر من نصفهم خارج فلسطين في دياسبورا الشتات.
المخيمات والتجمعات الفلسطينية اللاجئة، ليس مكانًا جغرافيًّا بحتًا، أو موئلًا لمجموعات أو كُتل بشرية من اللاجئين الفلسطينيين، إنها جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني. إنها رمزية كفاحية باتت موجودة بشكل مستديم في سردية العمل الكفاحي للمسيرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وللوطنية الفلسطينية.
على جدران تلك المخيمات، ومنها مخيم اليرموك، وفي شوارعه رسم الفلسطينيون مآسيهم، مؤرخين بخربشات أقلامهم دراما اللّجوء، فَتَدمَع جدران المخيمعند التحليق عليها. وعلى جدران المخيم نشروا ملصقاتهم، وصور شهدائهم. ورسموا على جدران مدارس الأونروا لوحات العودة إلى حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا واللد والرملة… العودة هناك إلى الوطن السليب، وإلى الهوية التي مازالت تَعِيشُ في وجدان كل لاجئ فلسطيني. إن تلك الكلمات ليست شاعرية، أو لغة خشبية أو مُتقادمة، كما يعتقد البعض، إنها كلمات “قوة الحق في مواجهة حق القوة” تتأجج كل يوم عند تلك الأجيال التي توالدت في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، لتكسر ما قاله وزير خارجية الولايات المتحدة فترة الخمسينيات من القرن الماضي جون فوستر دالاس “الكبار يموتون والصغار ينسون”.
لقدشكّلت مخيمات ومواقع انتشار اللاجئين الفلسطينيين، داخل فلسطين وفي الشتات وعاء وخزان الطاقة البشري الذي لاينضب في رفد الثورة الفلسطينية بجميع فصــائلها. وعلى هذا الأساس فإن وجود المخيم بحد ذاته يقض مضاجع الصهاينة، ويجعل من حياتهم اليومية أرقًا وصداعًا مستمرًّا عنوانه الرعب الذي يُشكّله المعني السياسي والمادي لوجود المخيم ربطًا بالمعنى الذي يحمله تجاه قضية العودة. ووفق هذا نتلمس كم من عظائم الأمور صنعها صمود أبناء وتجمعات اللاجئين في الداخل والشتات.
لقد فتحت جروح وآلام ومحنة مخيم اليرموك وعموم التجمعات الفلسطينية اللاجئة فوق الأرض العربية السورية، ملفًّا طويلًا وعريضًا، مازالت مفاعيله متواصلة على الأرض. ملفًّا يَتعلق بالمساعي التي بدأت منذ وقتٍ طويل في كواليس الدبلوماسية السرية من أجل إهالة التراب على المخيم الفلسطيني، وشطبه من الوجود لما يحمله من دلالات قاطعة تتعلق بحق العودة.
إن ما جرى ويجري يؤشر على مدى القلق والأرق الذي يَقُضُ مضاجع الاحتلال ومن ورائه الإدارة الأميركية التي تقود عملية التسوية المختلة والمأزومة أصلًامن وجود المخيم الفلسطيني ذاته أينما كان، وعلى الأخص داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وليس مُصادفة أن نَلحظ تزاحم الأفكار والمشاريع والاقتراحات التي قُدمت منذ سنوات لإنهاء صيغة المخيم الفلسطيني تحت عناوين “برامج تطبيق السلام لفلسطينيي الشتات”، و”إعادة تأهيل المخيمات”، ومساعدة مجتمع اللاجئين في المخيمات والتجمعات الفلسطينية اللاجئة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزه فضلًا عن مخيمات سوريا ولبنان والأردن. فالإدارة الأميركية والكيان الصهيوني يَنظُران في سياق التسوية الجارية للشعب العربي الفلسطيني في الداخل معزولًا عن الشتات، وتعتبران بأن الفلسطينيين هم فقط سكان الداخل المحتل عام 1967، وأن من هم في الشتات خارج دائرة الحل، وأن حلول قضيتهم تقع تحت سقف ما يُطرح في المفاوضات متعددة الأطراف، حلول “التوطين والتهجير”.
إن صمود المخيمات، ومنها صمود أبناء لاجئي فلسطين في اليرموك وعموم التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، أعاد إلى الصدارة قضية اللاجئين وحق العودة. فقضية اللاجئين الفلسطينيين لن تقف إلى الأبد عند حدود الأمر الواقع الصهيوني، وكما برهن على هذا الدور الملحوظ والأساسي لأبناء المخيمات في المقاومة والانتفاضة داخل فلسطين، حيث شكّل المخيم الفلسطيني وما زال الخزان البشري ووعاء الطاقة الذي لا ينضب في رفد وتعبيد مسار الثورة والنهوض الوطني الفلسطيني في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وعموم قواها وفصائلها المقاتلة.
ومع هذا دخل صمود الشعب الفلسطيني من أبناء المخيمات في الداخل، بقوة إلى قــائمة المجد والخلود الفلسطينية، كما دخل من قبله إلى السجل الحافل بالتضحيات والمواقف البطولية العديد من المخيمات ومواقع اللجوء والشتات الفلسطينية. ففي الماضي القريب صمد مخيم الكرامة في الغور الشمالي قرب مدينة إربد الأردنية في العام 1968 وقاتل أبناءه جنبًا إلى جنب مع القوات الأردنية والفلسطينية قوات الغزو “الإسرائيلية” التي حاولت احتلال مواقع لها على الضفة الشرقية لنهر الأردن والقضاء على العمل الفدائي الفلسطيني الوليد، فشكّلت معركة الكرامة وصمود مخيم الكرامة علامة بارزة على طريق نهوض وتطور الحركة الفدائية الفلسطينية الناشئة. وهو ما كتـبته أيضًا رحلة صمود ومأثرة مخيم تل الـزعتر، ومخيمي صبرا وشاتيلا، ومخيمات: عين الحلوة، الرشيدية، البص، البرج الشمالي … التي قاومت هجمات قوات الاحتلال على مدار أيام طويلة من صيف العام 1982 أثناء الغزو الصهيوني للبنان.
إن المحطات الرئيسية في صمود مخيمات الشتات الفلسطيني حصلت بعد المرحلة الأردنية في العمل الفلسطيني في مخيمات الجنوب اللبناني عندما دُمرَ بالكامل مخيم النبطية للاجئين الفلسطينيين بفعل غارات الطيران الإسرائيلي عام 1974، وفي مخيم تل الزعتر صيف العام 1976 حيث حوصر المخيم لثلاثة شهور متتالية، وانتهى حصاره بسقوطه وسقوط مئات الشهداء جلهم من المدنيين. وفي مراحل الاجتياحات الصهيونية المُتتابعة منذ عملية “الليطاني” عام 1978 إلى الاجتياح الشامل عام 1982، إلى الحروب الظالمة التي شُنت على الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله المختلفة، وهي الحروب التي عرفت باسم “حروب المخــيمات” في بيروت وصيدا وصور بين أعوام 1985 – 1988.
إن الصمود الأسطوري الذي سَطَّرَهُ شبان وشابات ورجال الانتفاضة الأولى والثانية في الداخل المحتل عام 1967، أعاد إلى الأذهان الصمود ذاته الذي كتبته مخيمات غزة أثناء الاجتياح الصهيوني الأول خلال عدوان 1956، وفي السنـوات الأولى من احتلال عام 1967، فضلًا عن الصمود المستديم لمخيمات الشتات الفلسطيني عبر المسيرة المعاصرة للثورة الفلسطينية منذ عام 1965.
ونشير في هذا السياق، أن المتطرف الصهيوني بني آلون رئيس حركة (موليديت) البائدة، والتي أسسها المقتول الجنرال رحبعام زئيفي صاحب نظرية الترانسفير والتطهير العرقي، أعلن في لقاء مع صحيفة معاريف في أوج صعود الانتفاضة الثانية وأثناء محنة مخيم جنين بأن “كل عملية عسكرية لا تنتهي بتفكيك مـــخيمات اللاجئين الفلســـطينيين ستكون على الدوام قد انتهت بشكل مبكر جدًّا” وذلك في إشارة إلى عملــية “السور الواقي” التي قادها شارون والطاقم الدموي في حكومته وأركانه العسكرية والأمنية.
أخيرًا، وباستعارة من الشاعر الكبير محمود درويش: كان المخيَّم جسم أحمد .. كانت دمشق جفون أحمد .. .. هناك حيث أحمد العربي .. تمر الوردة بين مقصلتين .. وردة لشهيد الثورة الفلسطينية في مخيَّم الشهداء .. ووردة لمدافع عنك لهذا التاريخ والتراكم النضالي ..
ونضيف القول من جانبنا، هنا في مخيَّم اليرموك كلما اتكأت على حجر تتدفق من السماء زنابق بيضاء على شكل رجال يحملون ما تبقى في هذه الأرض من وجع.. يتدفق من السماء ماء وخبز وصلوات .. ودمع مصحوب بعتاب يبقى معلقًا على حواف الهواء .. هنا نحن ننتمي للفقراء في هذه الأزقة.