انصرف اهتمام بعض أحزابنا السياسية إلى مادة واحدة في مشروع قانون الأحزاب المعروض على مجلس النواب، والتي تتعلق أساساً بعدد الأعضاء المؤسسين للحزب الناشئ … الأصل ألا تثير هذه المادة حفيظة هذه الأحزاب طالما أنها نجحت في اجتياز “عتبة” الخمسمائة عضو المنصوص عليها في القانون ساري المفعول … والأصل أن يثير تخفيض عدد المؤسسين الارتياح عن بعض الأحزاب القائمة، التي إن خضعت للتدقيق، فستفقد ترخيصها، لأنها لم تعد تتوفر على الحد الأدنى الراهن … لكن مع ذلك، انصب الاهتمام هنا، وهنا فقط، كما يبدو من البيانات والتصريحات المتطايرة. تخشى بعض الأحزاب الجادة والجدية، أن نكون أمام فوضى حزبية عارمة، كأن يتكاثر عدد الأحزاب بصورة غير منطقية، تتسبب “بالزحام المعيق للحركة” … لهؤلاء نقول إن رفع عدد المؤسسين في العام 2007 لم يقلص عدد الأحزاب إلا مؤقتاً، فنحن اليوم لدينا عدد من الأحزاب يفوق ما كان قائماً بموجب قانون 1992 المتساهل نسبياً في قضايا التسجيل و”الترخيص”… وأحسب أن حكاية التمويل المتساوي المضمون تلقائياً لكل حزب “شرعي” كانت السبب وراء هذه الكثرة الكاثرة من الأحزاب. أحزاب أخرى تخشى أن يفضي التساهل في “إباحة” الحق بتشكيل الأحزاب السياسة إلى مراجعة شروط التمويل، كأن يجري ربط التمويل بعدد الأصوات و/أو المقاعد التي يتحصل عليها في الانتخابات العامة، بلدية كانت برلمانية … لذلك نرى ميلاً جارفاً عند هذه الأحزاب للتشديد على إبقاء الحد الأدنى لعدد المؤسسين للحزب عند حاجز الخمسمائة المعمول به منذ العام 2007 … لكأن لسان حال هذه الأحزاب، لا يرى وسيلة سوى التمويل الحكومي، لاستنهاض العمل الحزبي، أو بالأحرى لبقائها، فهي اجتازت امتحان الترخيص / التسجيل، و “من بعدنا الطوفان”. الأصل في دستور 2011 أن تنسجم القوانين مع نصه وروحه، والمادة 128 قررت عدم جواز تقييد الحق الدستوري بالاشتراطات القانونية المبالغ بها … وانطلاقاً من هذه الروح، نعتقد كما يعتقد كثيرون غيرنا، إن “إباحة” الحق بتشكيل الأحزاب، يبدو أمراً دستورياً خالصاً، ومنسجماً مع الدعوات الإصلاحية، ولا تجوز مصادرته بكثير من التعقيدات والاشتراطات التي تنطوي عليها القوانين ذات الصلة. أما “التمويل” فتلكم حكاية أخرى، أحسب أن آلياته واشتراطاته ومعاييره، باتت بحاجة للمراجعة والتمحيص بعد سنوات ثمانٍ من العمل بها، وهنا يجدر التركيز على بعض الملاحظات الجوهرية المهمة في هذا المجال: أولاً، برهنت التجربة على أن رفع عدد الأعضاء المؤسسين للحزب مقابل التمويل الحكومي الثابت، لم يفض إلى بناء منظومة حزبية نشطة وفاعلة، بل أدى إلى “زحام معيق للحركة”، ووسع من دائرة العضوية الشكلية/ الورقية، وهذا مسار لن يتوقف، وقد لاحظنا ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الأحزاب المسجلة في العامين الفائتين بصورة لافتة. ثانياً، ثمة ضرورة للتمييز بدقة بين الحق في تشكيل الأحزاب، وهو حق غير قابل للمصادرة أو التضييق من جهة، وحق الحزب في لحصول على المال العام، وهذا الحق يجب أن يظل مقيداً ومشروطاً، وربما أظهرت التجربة أن المعيار الوحيد لأحقية الحزب في الحصول على المال العام، إنما يكمن في الوزن الانتخابي للحزب، وليس بعدد الرجال والنساء المسجلين على قوائمه، وأحياناً بصورة شكلية مؤسفة، خاصة في الأوساط النسائية. ثالثاً: إن الالتزام بهذا المعيار، سيقلص عدد الأحزاب خلال سنة واحدة على الأكثر، إلى النصف، الأمر الذي سيوفر فرصة لمضاعفة التمويل للأحزاب الأكثر جدية والأكثر توافراً على فرص البقاء والنمو والتمدد … ولا ينبغي أن نتلفت كثيراً لأحزاب صغيرة ستنشأ وتنحل إذا ما خُفّض عدد المؤسسين، فهي من جهة لا تكلف الخزينة قرشاً واحداً، وهي من جهة ثانية ستخضع لامتحان الجدية عند أول انتخابات نقابية أو بلدية أو برلمانية، وعند هذا الامتحان يكرم الحزب أو يهان. رابعاً: لا ينبغي أن يكون هاجس المشرّع الأردني، ولا “بؤرة التركيز” في النقاش العام حول مشروع قانون الأحزاب، منصباً على “كثرة الأحزاب” أو “عدد المؤسسين” … في مختلف دول العالم، هناك كثرة كاثرة من الأحزاب السياسية، التي لا يصل منها إلى البرلمان إلا حفنة صغيرة منها، وغالباً بأقل من أصابع اليدين، أما بقية الأحزاب، فإما أن تكون كالزبد الذي يذهب جفاءً، أو أنها تستمر كمجموعات حلقية ضيقة، تدور حول فكرة أو مصلحة أو قضية هامشية محددة. خلاصة القول: إن أفضل قانون للأحزاب السياسية لن يُنشئ أحزاباً ولا نظاماً أو منظومة حزبية … الأحزاب تنشأ كتعبير عن “الإرادة الشعبية” وتمارس دورها كأدوات لصياغة هذه الإرادة وتظهيرها والتعبير عنها … وإذا كنا بحاجة لمدخل قانوني لاستنهاض دور الأحزاب، فعلينا أن نبدأ من قوانين الانتخابات العامة، وليس من قانون الأحزاب على أهمية هذا الأخير.