يبدو أن الصفيح الساخن الذي وُضِعَت المنطقة فوقه مرشح لمزيد من درجات التسخين، وذلك لاستمرار التدخلات الغربية في الشأن الداخلي لدول المنطقة وتوتير الأوضاع فيها ورفع سخونتها إلى مستويات أعلى، وما يفتح الباب واسعًا لهذه التدخلات جملة من العوامل من بينها ترابط ملفات الأحداث وتداخل المصالح وتشابكها، والتحول النوعي وغير المسبوق في تاريخ المنطقة بالاصطفاف مع العقل الصهيو ـ غربي راسم خريطة التدخلات وبعثرة دول المنطقة وفرز شعوبها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، وقبول قوى ومكونات عربية وإقليمية بهذا الفرز وتقديم شهادة قبولها من خلال المشاركة اللافتة مع الراسم والمخطط الصهيو ـ غربي لإنتاج الإرهاب وتكفلها بدعم هذا الإرهاب وعصاباته بالمال والسلاح وبكل ما يحتاجه من دعم لوجستي.
ووفقًا لتلك العوامل، تتجه الأنظار اليوم إلى ما يعده الأميركي من خطط جديدة، واستعداد الطرف المتلقي المصطف معه لتنفيذها بهدف رفع درجة التسخين، في إطار خلط الأوراق وتغيير قواعد اللعبة، في محاولة منه لتسريع عملية إنضاج الأهداف الاستراتيجية بعد أربع سنوات من التخطيط والتآمر ودعم الإرهاب كان استعصاء التحقيق والإنجاز هو المتسيد.
ولعل ترابط الملفات وحده كفيل بإظهار صورة المنطقة وكأنها لوح شطرنج يقعى في جانب منه الصهيو ـ أميركي والمصطفون معه والداعمون لإرهابه ومؤامراته، وفي الجانب الآخر يجلس المقاومون للإرهاب والمؤامرات ومن يدعمهم، ومشهد سير الأحداث في كل من سوريا والعراق يعطي أحد أجزاء هذه الصورة. فالتقدم “المؤقت” لعصابات الإرهاب ذات الأغلبية الشيشانية وبقيادة ما يسمى “جبهة النصرة” الإرهابية في محافظة إدلب وريفها وفي مدينة جسر الشغور تحديدًا، لا يؤكد فقط التكامل القائم بين الإرهاب ومشغِّليه الإقليميين، وإنما يؤكد التعامل الميداني في كل من سوريا والعراق على أنه وحدة مترابطة. ويعكس ذلك الموقف الأميركي من خلال سلسلة التصريحات والخطوات العملية وموالاتها للمنجز على الميدان، فليس من قبيل المصادفة أن يطغى تحول في التصريحات الأميركية وتبدل في المواقف في ظل التطورات الأخيرة في كل من سوريا والعراق، ففي الوقت الذي صرح فيه جون كيري وزير الخارجية بأن الرئيس السوري بشار الأسد “ليس شريكًا في الحرب على الإرهاب”، زاعمًا بأنه هو “من جلب الإرهاب إلى سوريا”، بعد أن صرح في وقت سابق بأن “الرئيس بشار الأسد جزء من الحل” للأزمة المستمرة منذ ما يزيد على أربع سنوات، يخرج الكونجرس الأميركي بمشروع قرار بتسليح الأكراد والقبائل السنية في العراق بحجة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، حيث كشف مزهر الملا عضو مجلس محافظة الأنبار أن “الولايات المتحدة الأميركية وافقت على تسليح أبناء الأنبار من أسلحة ثقيلة ومتوسطة ومختلفة من أجل محاربة تنظيم “داعش” الذي يسيطر على مساحات كبيرة من المحافظة”، مضيفًا أن “الدفعة الأولى من الأسلحة ستصل قريبًا عبر قاعدتي الحبانية وعين الأسد بالمحافظة، وأن التوزيع سيكون بعلم الحكومة المركزية وبإشراف من الجيش الأميركي”. ويتزامن معه تحرك الأكراد استعدادًا لإعلان دولة كردستان الكردية فقد كشف فؤاد حسين رئيس ديوان رئاسة إقليم كردستان أن رئيس الإقليم مسعود البرزاني “سيحمل (هذا الأسبوع) ملف إقامة الدولة الكردية معه إلى البيت الأبيض، وسيطرحه علانية أمام الرئيس الأميركي باراك أوباما” لافتًا إلى أنه سيبحث أيضًا “حرب الكرد ضد تنظيم “داعش”، ومعركة استعادة الموصل، وتثبيت حدود كردستان في الدولة العراقية، والعلاقات بين أربيل وبغداد”.
التحرك الأميركي نحو تسليح الأكراد والقبائل في الأنبار ـ حسب التوصيف الأميركي القبائل السنية ـ حين يوضع في سياقه الظاهري لاستراتيجية أوباما لمواجهة تنظيم “داعش” يعد أمرًا طبيعيًّا ويأتي في إطار الدعم الأميركي للعراق، لكنه في سياقه الخفي، يهدف إلى تحقيق أبعاد استراتيجية أكبر وأخطر، من بينها:
أولًا: إن التسليح للأكراد والقبائل في غرب العراق، مع الدعم الصهيوني الكبير لإقامة دولة كردستان الكردية، يأتي في إطار الوعد الأميركي للحليف الصهيوني بأنه لن تقوم قائمة للمنطقة، ولن تكون هناك ممكنات تسمح بالعودة إلى ما قبل عام 2011م يكون فيها كيان الاحتلال الصهيوني عرضة لأي تهديد، فالمتغيرات الراهنة واللاحقة تصب في هذا الاتجاه، رغم الاتفاق النووي النهائي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمجموعة السداسية الدولية.
ثانيًا: السلاح الأميركي الذي سيقع بأيدي العراقيين في غرب العراق، لا محالة أن المخطط الأميركي لا يهدف من ورائه خيرًا، بل سيُعمل لاحقًا على توجيهه إلى صدور العراقيين بما يخدم المشروع الأميركي الذي كشفه لأول مرة جو بايدن نائب الرئيس الأميركي وهو تقسيم العراق، إذ سيجري مضاعفة النبرة الطائفية والمذهبية والتحريض، لا سيما وأن الأرضية موجودة مثلما الخبرة التي تولدت من خلال استهداف المساجد والحسينيات وقبة الإمامين في سامراءـ ولذلك يلاحظ هنا الخبث الأميركي في محاولة إبعاد الحشد الشعبي ـ الذي للأسف ارتكب تجاوزات ولو كانت على نطاق ضيق لكنها مرفوضة ـ عن إسناد القوات المسلحة العراقية في محاربة “داعش”، والذي (أي الحشد) كان له دور واضح في تقدم القوات العراقية، ومحاولة التشويش بأنه مثلما يجب أن يُسلح الحشد الشعبي ـ المحسوب على المكون الشيعي ـ فإن القبائل السنية في غرب العراق هي الأخرى يجب أن تُسلح. كما يلاحظ الخبث الأميركي في أنه لكي يضمن وصول السلاح أوكل مهمة الإشراف على ذلك إلى الحكومة العراقية والجيش الأميركي ليخفف من وطأة المعارضة وليعطي كلًّا من الحكومة والمكونات الأخرى الثقة وليبعد الشبهة عنه، فقد هدد مقتدى الصدر بضرب المصالح الأميركية في المنطقة إن أقدمت واشنطن على تسليح قبائل الأنبار.
ثالثًا: فصل الجغرافيا الممتدة من إيران فالعراق ثم سوريا ولبنان، والمعروفة بجغرافيا محور المقاومة، حيث سيكون غرب العراق مع شرق سوريا جغرافيا واحدة متصلة تكون خاضعة لمعسكر التآمر والعدوان من خلال أدواته، تسمح له بإقامة منطقة حظر طيران، وكذلك بمد أنابيب الطاقة باتجاه أوروبا عبر تركيا واتجاه كيان الاحتلال الصهيوني عبر العراق وسوريا، حيث سيسهل تحقيق ذلك تقسيم العراق بقيام إقليم في غرب العراق ودولة كردستان المسعى لإقامتها.
نعم، لقد نجح الأميركي في تسويق نفسه ظاهريًّا على أنه يقف على مسافة واحدة من جميع القوى العراقية، وباطنيًّا مستمر في نجاحه بتمزيق العراق بمختلف مكوناته، إلا أنه لا تزال لدى الحكومة العراقية وجميع العراقيين الغيورين على عراقهم الفرصة لأن يتداركوا هذا الخطر الداهم، بإلغاء الميليشيات الطائفية وضم عناصرها في القوات المسلحة العراقية، ورفض وجود السلاح غير الشرعي، فكل السلاح أن يكون بيد الحكومة، والامتناع عن إيجاد الحاضنات والبيئات لبؤر الإرهاب، والتخلي عن الانتماءات والولاءات للقوى الخارجية أو للطائفة والحزب، فالانتماء والولاء للعراق.