أصدر مجلس التعليم العالي قراره بقبول الدراسة الالكترونية للحصول على درجة البكالوريوس، وهو قرار بالغ الأهمية والخطورة في نفس الوقت. فالإنفتاح على وسائل التعليم الحديثة بما فيها “التعليم الالكتروني” و”المختبرات الافتراضية” و”التعلم التفاعلي عن بعد” و”الحوار عبر المسافات البعيدة” مع الآخرين أمر غاية في الأهمية ولا بد من الإفادة من جميع هذه الوسائط . غير أن دور مؤسسات التعليم العالي، و بشكل خاص الجامعة، هو أكبر بكثير و أعقد من مجرد التعليم ونقل المعلومات والمعارف ومنح الشهادة. إن الجامعات الجيدة في الدول المتقدمة هي قاطرات رئيسية للتفوق والتميز والمنافسة على الصعيد الإقتصادي الإجتماعي وهي محركات رئيسية لنهوض القطاعات الإنتاجية واستمرار قوة الدولة و مواكبتها لمتطلبات التغير والتحديث، وذلك من خلال أدوار ستة تقوم بها مؤسسات التعليم العالي و ينبغي العمل على تفعيلها دون توقف، الأول : بناء شخصية الطالب الجامعي بمفهوم علمي ووطني وإنساني وإعادة صياغة تفكيره وأفكاره ومواقفه بل وسلوكياته، والانتقال به من حالة تلقي المعلومات و حفظها إلى مرحلة تحليل ونقد وتركيب الأفكار العلمية في طريق البحث عن حلول ناجعة لمختلف أنواع المشكلات والثاني: تخريج المتخصصين في العلوم النظرية والتطبيقية والتكنولوجيات المختلفة بنوعية جيدة من التعليم و بقدرة على توظيف العلم في خدمة المجتمع وبتمكين الخريجين من مهارات التخصص اللازمة والمهارات الحياتية التي يطلبها سوق العمل . والثالث: أن تكون الجامعة بأساتذتها و المتميزين من طلبتها و من خلال البحث العلمي و التطوير التكنولوجي و الإبداع مركز فكر و علم وتنوير ورأي للمجتمع بأسره، و تكون بيت خبرة و مجمع تفكير للدولة . والرابع: أن تساهم الجامعة و مراكز البحث في حل المشكلات المتخصصة التي تواجه الدولة والقطاعات المختلفة من خلال انخراط الطلبة والأساتذة في دراستها وبحثها وتطوير البدائل وابتداع مسارات جديدة . والخامس: أن تكون الجامعة المؤسسة الوطنية التي يخرج منها العلماء المتميزون والمفكرون المبدعون والمهندسون المتفوقون في الهندسة و التكنولوجيا والفكر والفن والثقافة . والسادس: الاستشراف العلمي لمستقبل القطاعات و الإتجاهات و الظواهر والسياسات و الموارد المختلفة في الوطن و الإقليم من قبل فرق البحث والدراسات التي يشترك فيها جزء من الطلبة مع أساتذتهم. إن هذه الأدوار البالغة الحيوية هي في الجزء الأكبر منها ذات طبيعة مجتمعية وطنية، و من الصعب تحقيقها بالتعليم الالكتروني فقط في المرحلة الحاضرة على الأقل. ولا يجوز أن ينظر مجلس التعليم العالي إلى التعليم الجامعي على أن غايته النهائية هي مجرد الحصول على الدرجة العلمية أو الاستعداد لها من خلال الامتحانات الالكترونية. إن المطلوب في المرحلة الحالية، وربما لسنين طويلة قادمة، تعزيز و تأكيد الاتصال المباشر والاحتكاك الإنساني بين المتعلم والمعلم وبين المتعلم والتطبيقات على أرض الواقع حتى يصبح المتعلم جزء من نظام التفكير العلمي الوطني. إن المنطقة العربية، و نحن منها، لا زالت تعيش في إطار “بنية اقتصادية زراعية- تجارية” أي مجتمع ما قبل الصناعة و بالتأكيد ما قبل إقتصاد المعرفة. وهذا يعني عمليا أن هناك غيابا عميقا لطبيعة الشخصية والعقلية والنفسية والسلوكية التي يفرضها ويتطلبها المجتمع الصناعي. فالصلة في المجتمعات الصناعية بين الإنسان وبين التكنولوجيا وبينه وبين الإبداع والاختراع وبينه وبين المنافسين صلة يومية مباشرة تذكي فيه روح العلم والتعلم والاكتشاف والريادية، و على الجامعات بأكاديميها و طلبتها أن تكون في قلب هذه المعمعة. وهذه الخصائص التي نحن في حاجة لتعلمها و ممارستها وتأصيلها لدى الشباب، يصعب تحقيقها من خلال التعلم الالكتروني. إن المسألة، من منظور وطني واجتماعي، ليست الشهادة والدرجة بقدر ما هي التحول وإعادة البناء في العقل وفي العمل وفي النفس و الموقف والسلوك. وهذا ما لا يوفره التعليم الالكتروني منفردا . نحن في مرحلة بناء ومرحلة انتقال، ولذا فإن الحل الأفضل يتمثل بالتعليم المولف Blended Education أو ما يعرف أحيانا بإسم “التعليم الهجين “ .حيث تكون هناك برامج الكترونية يتناولها الطالب ويتعلم محتوياتها ويجتازها، ولكن هناك برامج التعليم الاعتيادية التي يكون المعلم فيها ليس مجرد وسيط، بل ملهم و قدوة و محرك التغير الإنساني. وهذا يتطلب إعادة تأهيل الأساتذة للتعلم الهجين والتركيز في تأهيلهم على القدرة على التأثير في عقل الطالب وأسلوب تفكيره وتعامله و ارتباطه بالإنجاز الشخصي و المجتمعي، و بل والقيم الإنسانية والوطنية التي ينبغي أن تصبح جزء من شخصيته. و رغم تحفظنا على عدد من المواد الوردة في قانون التعليم العالي و قانون الجامعات إلا أن الدراسة الإلكترونية للحصول على درجة البكالوريوس سوف لن تستجيب لمعظم البنود الواردة في المادة الأولى من القانون. و هذا يجعل قرار المجلس فيه شئ كثير من التسرع . أن مثل هذه القرارات ينبغي أن تجري دراستها بعمق، ليس من منظور تعليمي فني فقط، وإنما من منظور فكري وطني وإنساني يعي تماما طبيعة الدعائم التي يقوم عليها مجتمع الصناعة والمعرفة.منظور مدرك للمرحلة التاريخية بما تحمل من بنى اقتصادية و ثقافية و فكرية ومتطلع نحو المستقبل.