في 15 شباط (فبراير) 1989 عبر قائد القوات السوفياتية بأفغانستان الجنرال بوريس غروموف على قدميه جسر الصداقة الفاصل بين أفغانستان وأوزبكستان السوفياتية آنذاك، ليكون آخر جندي روسي يغادر أفغانستان بعد غزو وحرب دامية استمرت عقداً كاملاً انتهى بهزيمة السوفيات ومؤذناً بتغيرات هائلة في بلاده والمنطقة.
في أفغانستان كانت الأجواء احتفالية، بدا لهم أن جهادهم على وشك أن يكمل انتصاره، وأنها مسألة وقت وتسقط حكومة كابول الشيوعية التي تركها الروس مثخنة بالجراح وسط محيط شعبي يرفضها وثائر عليها، أجواء الانتصار امتدت إلى حلفاء المجاهدين الأفغان في الرياض وإسلام آباد، أيام وندخل جميعاً كابول نحتفل بالانتصار على تلك الدولة العظمى التي طالما هددتنا جميعاً.
اجتمع قادة المجاهدين، وحولهم مئات الأفغان، قضاة وسياسيين، قادة ميدانيين، تجاراً ومهاجرين في روالبندي في أكبر «لويا جيركا» شهدها تاريخ أفغانستان، يحلمون ببناء أفغانستان جديدة قوامها الإسلام والحرية، كنت يومها واحداً بين عشرات الصحافيين الذين جذبهم هذا المنظر السينمائي، وكأنه من فيلم «لورانس العرب» الشهير، وخصوصاً لقطات اجتماع العرب في قاعة عربية واسعة بدمشق، إذ اختصم عودة أبوتايه (أنطوني كوين) مع الشريف (عمر الشريف)، بينما يتحدث الجميع في وقت واحد من دون ضابط أو رابط.
الأفغان فعلوا الشيء نفسه، بدا بعد يومين أنه من المستحيل أن يتفقوا على تشكيل حكومة انتقالية لتتسلم السلطة من حكومة كابول، لم يستطع رجال الاستخبارات السعودية ولا الباكستانية، ولا قيادات الإخوان المسلمين الذين توافدوا للاحتفال بالانتصار الكبير، وعلى رغم نفوذهم الواسع عليهم، تقريب وجهات النظر بين الأفغان أو حتى ترتيب آلية للاتفاق ووضع حد للفوضى الهائلة التي سادت تلك القاعة الكبيرة.
في اليوم الثالث دخل القاعة مولوي جلال الدين حقاني، وكان أحد قادة المجاهدين البارزين وقتها وانضم إلى الطالبان لاحقاً ومطلوب اليوم أميركياً، وغلق أبواب القاعة بالسلاسل وأوقف رجاله أمامها يمنعون المندوبين من الخروج، هدأت القاعة أخيراً واستمعوا للرجل الذي يحترمونه أو يكرهونه، ولكنهم يهابونه، وزع عليهم خطته، طلب من كل زعيم حزب من الأحزاب السنّية السبعة والحزبين الشيعيين الاثنين اختيار 60 مندوباً عن كل حزب، هؤلاء هم مجلس أهل الحل والعقد الذين سيختارون بالتصويت أعضاء الحكومة الانتقالية، كانت تلك الديموقراطية بالطريقة الأفغانية، فلم يحل مغرب ذلك اليوم إلا وأعلنت أسماء الرئيس ونائبه وأعضاء الحكومة.
الفصل التالي:
اعترفت المملكة وباكستان بالحكومة الانتقالية، التي عقدت أول جلساتها بمزرعة قريباً من جلال آباد، وبعد أسابيع بدأت عملية عسكرية لتحرير المدينة لكهنا فشلت ولم تسقط الحكومة الشيوعية في كابول، وغزا صدام حسين الكويت، وانشغلت السعودية ومعها العالم بهذا التحدي الكبير، ونسي الجميع أفغانستان.
الفصل الثالث:
بعد عامين، فوجئ الجميع بأن كابول على وشك السقوط بيد أحمد شاه مسعود القائد البنشيري، لم يكن هناك وقت كافٍ لدى الأطراف الإقليمية لترتيب الوضع، فدخلت أفغانستان أتون حرب أهلية طاحنة لا تزال تدفع ثمنها ومعها العالم كله حتى الآن.
الدروس المستفادة من القصة السابقة أن الأحداث المهمة لا تنتظر أحداً، الجميع يعلمون أن السعودية مشغولة باليمن حتى توفر له السلم وليس فقط إخراج الحوثيين وصالح من صنعاء لكي تعلن أنها انتصرت، وهذا يحتاج إلى أشهر عدة، والأتراك وتحديداً الحزب الحاكم هناك مشغولون بالانتخابات التشريعية الشهر المقبل، انتخابات مصيرية لا بد أن يحقق فيها انتصار كاسح كي يستطيع تعديل الدستور وتحويل النظام إلى رئاسي، ولكن الثوار السوريين لن ينتظروا هذا أو ذاك. يرون أن صفهم انتظم بوحدة غير مسبوقة، والنظام ينهار، وللانتصار زخمه الذي يجب أن يوظف لمزيد من الانتصارات، وانهيار النظام يأتي معه انهيار معنويات وانشقاقات، وهي فرصة يجب أن تستغل، الأحداث سريعة في سورية، ولن تنتظر اجتماعاً يعقد في الرياض – كما تقول المعارضة إنها تلقت دعوة لحضوره – ولا جولة مفاوضات جديدة مع المبعوث الأممي دي ميستورا لعرض أفكار غير مجربة، القرار بات بيد مجاهدين يجتمعون أسفل شجرة مشمش بريف إدلب، أمامهم خريطة سورية، يرون أن الفاصل بينهم وبين مجاهدي حمص وحماة كيلومترات معدودة، يتواصلون مع إخوانهم جنوباً في درعا وحول دمشق، يقلّبون اختياراتهم ويرسمون خططهم، ويعلمون أنهم لن يتلقوا اتصالاً من الرياض أو أنقرة يطلب منهم الانتظار، بل إن مصلحة البلدين أن يكفيهما الثوار عناء التدخل، وأزمات دولية وإقليمية مع إيران أو الروس، ليتدخلوا لاحقاً مناصرين ومباركين.
ولكن مثلما حصل في أفغانستان في نيسان (أبريل) 1992 فإن «فتح كابل» – كما سماه المجاهدون وقتها – لم ينه الأزمة الأفغانية، وإنما فتح فصلاً آخر منها كان أكثر إيلاماً وأعظم كلفة، كذلك سيكون «فتح دمشق»، فما لم يبدأ منذ اليوم تفاعل سعودي تركي مع الواقع السوري لترتيب اليوم التالي لسقوط بشار، فإن كل شر حصل في أفغانستان يمكن أن يحصل وزيادة في سورية، فالأخيرة كانت بعيدة وكان يمكن إهمالها، ولكنها لاحقت العالم بطائرات تقصف أبراجاً في 11 من أيلول (سبتمبر) 2001. أما سورية فإنها في وسطنا،
هناك ثلاثة تحديات خطرة ستواجه الثورة السورية بعد بشار، أولها وأخطرها: «وحدة الثوار» ومنع حصول صراع بينهم، والذي لا بد أن يحصل، ليس فقط لاختلافات المرجعيات السياسية بين إسلاميين وعلمانيين، بل حتى بين مدينة وأخرى أو حارة وحارة، وتنظيم وتنظيم، مشكلة سورية أنها تفتقر إلى «ديغول» يجتمع حوله كل الثوار، مشكلتها أنهم جميعاً ديغول، وأكبر خدمة تقدمها الرياض لهم هي آلية لاتخاذ القرار (شيء شبيه بما فعل مولوي حقاني في روالبندي)، تمهد لمجلس تأسيسي يفضي إلى انتخابات ورئيس ودستور، مهمة ليست سهلة بعدما تنوعت مشارب الثوار، ولكن الأدوات والقواعد التي استخدمت في تشكيل «جيش الفتح» مشجعة ويمكن البناء عليها.
التحدي الثاني: هو منع إيران من تنفيذ «الخطة ب» أي دولة مذهبية في الساحل، فهي موطئ قدم لها يتنافى مع الأهداف السياسية لعاصفة الحزم التي انطلقت من اليمن ولكن مهمتها أوسع من ذلك، وتفتيت لسورية لا تستحقه ولا يليق بقلب العروبة النابض وموطن حلم الوحدة العربية، كما أنها مشروع تقسيمي للمنطقة على خطوط طائفية وعرقية سيكون في قبوله هنا سابقة لكي يُقبل هناك، وهناك.
إنه ليس مشروعاً إيرانياً علوياً صرفاً، إنما فكرة خبيثة ستجد مؤيدين غير متوقعين لها في إسرائيل وبعض العواصم الأوروبية، وهنا تكمن خطورة المشروع وضرورة التصدي المبكر له.
التحدي الأخير هو «داعش» التنظيم الطفيلي الذي يقتات على انتصارات الثورة، لقد فقد زخمه بفضل انتصارات الثوار والقوى المعتدلة، وكذلك بفضل الروح الإيجابية التي ضختها «عاصفة الحزم» وسط جموع الشباب المسلم المتحمس للتغيير، ولكنه يظل خطراً كامناً بباطنيته وعلاقاته المشبوهة.
بعد فتح دمشق ليت أحداً يرفع شعار «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصليّن العصر إلا في (داعش)»، فلن يقضي على هذه الطغمة إلا مجاهدون يحركهم الإيمان وذاقوا شرهم، فيقيمون عليهم الحجة بالحق والسيف معاً، فيتخلل صفهم ويتفكك جمعهم فيولون الدبر.
إنها فرص أتت مجتمعة، وكأنها على قدر، فاغتنموها.