سياق الأحداث في المنطقة وغزارة نزيف الدم العربي ونقل الموت المجاني إلى الشعوب العربية المضطهدة، يضع النقاط المفقودة على المقاربة التي سعى الرئيس الأميركي باراك أوباما إرساءها على وقع التنازع بين إدارته وبين حلفاء بلاده وأتباعها حول اتفاق الإطار الذي توصلت إليه المجموعة السداسية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لتبدو هذه المقاربة أنها عبارة عن مفرمة تُفْرَمُ بها كتلة اللحم البشري في المنطقة، وبالأخص في سوريا والعراق البلدين اللذين يعدان العمق الاستراتيجي لإيران التي بفقدها هذا العمق تصبح معزولة.
أوباما بنى مقاربته التي جاءت بُعيْدَ التوصل إلى الاتفاق الإطاري وفُسِّرَتْ على أنها تسويق للاتفاق، على ثلاثة أضلاع؛ الأول: أن الولايات المتحدة ماضية في مفاوضاتها مع إيران حتى النهاية وتوقيع الاتفاق وتسوية ملف البرنامج النووي الإيراني، واصفًا الاتفاق حوله بأنه “أفضل الخيارات المفتوحة”. والثاني: نصح حلفاء بلاده من العرب بأن الخطر الذي يتهددهم ليس التعرض لهجوم محتمل من إيران، وإنما الخطر المهدد قابع في الداخل مع أولئك الشباب الباحثين عن العمل والشاعرين بعدم وجود مخرج سياسي لمظالمهم، ما يجعلهم صيدًا سهلًا لشراك الجماعات التكفيرية الإرهابية، وبالتالي تجنب هذا الخطر عبر إيجاد الآليات والمعالجات الكفيلة بتحقيق تطلعات الشباب وتلبية احتياجاتهم، حتى يشعر الشباب ـ كما قال أوباما ـ أن لديهم شيئًا آخر يختارونه غير تنظيم “داعش”. والثالث: أن يكون أتباع الولايات المتحدة من العرب أكثر فعالية في معالجة الأزمات الإقليمية، حيث قال أوباما “أعتقد أنه عند التفكير فيما يحدث في سوريا على سبيل المثال، فهناك رغبة كبيرة لدخول الولايات المتحدة هناك والقيام بشيء. لكن السؤال هو: لماذا لا نرى عربًا يحاربون الانتهاكات الفظيعة التي ترتكب ضد حقوق الإنسان أو يقاتلون ضد ما يفعله (الرئيس السوري بشار) الأسد؟”.. حسب قوله ووصفه.
ولإعطاء مقاربته قوة دفع لتحظى بالقبول، عرض أوباما على الحليف الاستراتيجي لبلاده وهو كيان الاحتلال الصهيوني توقيع معاهدة دفاع مشترك، مبديًا استعداده للتعهد بالوقوف إلى جانب هذا الكيان المحتل الغاصب إذا ما تعرض إلى أي هجوم، وفي مقابل ذلك عرض على أتباع بلاده من العرب في القمة المزمعة في كامب ديفيد الشهر المقبل مناقشة كيفية بناء قدرات دفاعية أكثر كفاءة، وطمأنتهم على دعم الولايات المتحدة لهم في مواجهة أي هجوم من الخارج، من المؤكد أن بناءها ستتكفل به خزائنهم المفتوحة صنابيرها عن آخرها حاليًّا لإدارة تروس مصانع السلاح الأميركية والغربية.
من الواضح أن الرئيس الأميركي يريد من خلال أضلاع مقاربته الثلاثة الآنفة الذكر، بناء استراتيجية جديدة لما بعد الاتفاق النووي المزمع توقيعه في نهاية يونيو المقبل، حيث مقتضيات هذه الاستراتيجية هي الاعتراف بحق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية مع فرض رقابة صارمة على منشآتها النووية، ما يحرمها من تصنيع سلاح نووي، يوازي هذا الاعتراف نشأة محور جديد عربي ـ صهيوني ـ تركي، يمتلك القدرات الهجومية والدفاعية والاقتصادية، ولديه الصلاحيات الكفيلة بمنع التمدد الإيراني وتحجيم دورها وإضعافه في المنطقة.
وتطورات الأحداث الأخيرة الممتدة من اليمن إلى العراق إلى سوريا ثم لبنان، تكشف أن هناك سباقًا مع الزمن من قبل المحور الجديد لتسجيل نقاط كثيرة ضد محور المقاومة، مستغلًّا في ذلك حالة التراجع للجمهورية الإسلامية الإيرانية دبلوماسيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا نحو حلفائها بهدف توفير الهدوء والتركيز اللازمين لإنجاز الاتفاق النهائي. ومسعى المحور الجديد واضح وهو لتحقيق أحد أمرين أو كليهما؛ الأول: دفع طهران إلى القيام بخطوات من شأنها أن تفشل المفاوضات النووية. الثاني: فرض أمر واقع جديد لابتزاز ليس إيران وحدها فيما يخص ملفها النووي، وإنما محور المقاومة بأكمله، على النحو الذي نراه في العراق في محافظة الأنبار من دعم كبير وواضح لـ”داعش” فرع القاعدة الإرهابي وتمكينه من بسط سيطرة واسعة على المحافظة وغيرها من المناطق كبيجي، والوصول إلى معبر الطريبيل على الحدود الأردنية. وكذلك ما نراه من دور لغرفة عمليات أنطاكية من تحشيد حوالي اثني عشر ألف إرهابي وتكفيري ومرتزق وقوات نظامية تابعة لمعسكر التآمر والعدوان على سوريا بقيادة ما يسمى “جبهة النصرة” فرع القاعدة الإرهابي، ودعمهم بالسلاح المتطور وبوسائل اتصال حديثة، ما مكَّنهم من السيطرة على مدينة جسر الشغور في ريف إدلب، حيث تشير المعلومات أن هؤلاء الإرهابيين أطلقوا حوالي ثلاثمئة صاروخ “تاو” الأميركية باتجاه الدبابات والعربات التابعة للجيش العربي السوري، ويصل مدى الصاروخ حوالي خمسة كيلومترات، ما يعني أن عددًا كبيرًا جدًّا من هذا النوع تم تزويد هؤلاء الإرهابيين به.
إذًا، هذه المذابح بحق المدنيين العراقيين والسوريين، وكذلك بحق قوات الجيش والشرطة، وتدمير المنازل ومنشآت البنية التحتية، هو ترجمة عملية لمقاربة الرئيس باراك أوباما بأضلاعها الثلاثة.
وبحسابات الربح والخسارة في ميدان التآمر والعدوان والاستثمار في بورصة الإرهاب، نجد أن الكيان الصهيوني هو الرابح الأول ومعه قوة إقليمية معروفة بدعمها السافر والمعلن للمنظمات الارهابية في سوريا، فيما الخاسر الأكبر هو العرب الشركاء في المحور أخلاقيًّا وتاريخيًّا ومكانيًّا وسياسيًّا وقوميًّا واقتصاديًّا الذين عليهم أن ينفذوا ويدفعوا الفاتورة التي سيكون ثمنها باهظًا باهظًا جدًّا جدًّا.