تتحرك الأحداث في المنطقة العربية بسرعة فاقت كل توقع، بحيث لا تترك مجالا كافيا للتدبير والتصرف سواء بالنسبة للسياسيين أو المخططين أو صناع القرار. ويوما بعد يوم تتكشف مواطن الضعف والهشاشة في مفاصل الدولة العربية. إن القتل و التدمير و التطرف والإرهاب الذي يقع الآن وبشكل متواصل في أكثر من (7) بلدان عربية، وراح ضحيته حتى الآن أكثر من مليون شخص، إضافة إلى مئات الآلاف من المرافق والمساكن التي تتساقط يوما بعد يوم، كل ذلك يرمز إلى حقيقة مرة ومخيفة وهي، أن الكثير من الدول العربية قد فشلت في تجذير الوطنية و المواطنة في نفوس أبنائها إلى الدرجة التي أصبح معها تدمير الأوطان و قتل الأبرياء لا يحرك لدى الكثيرين أدنى دافع لوضع حد لهذه المآسي البشعة. و أنها فشلت في تكوين جسور بينها و بين القوى السياسية تسمح بالوصول إلى منتصف الطريق في أي قضية خلافية. كما فشلت في تأصيل التنوع وقبول الآخر والإعتراف بالمكونات المتعددة في الوطن الواحد. هذا إضافة إلى فشلها الأكبر في التنمية الإقتصادية الإجتماعية، و التجاوب مع طموحات الشباب بفرص العمل و الحياة الكريمة البعيدة عن الفقر والإحباط والتهميش.و فشلها في بناء الديموقراطية بثقافتها و ممارساتها و مؤسساتها. وما نراه اليوم يمثل استعداد الأطراف المتصارعة لتدمير أوطانها بالكامل، و الإستعانة بالشيطان من أجل القضاء على الآخر و الوصول إلى الحكم والسلطة، و الجلوس على أنقاض الديار و التربع على أكوام الجماجم. فشلت معظم الدول العربية و فشل معها الإعلام والتربية و الثقافة في بناء و تجذير الوطنية القائمة على الفعل وليس القول والتغني، والقائمة على الحفاظ على الوطن و تحقيق تطلعاته حتى لو كان ذلك على حساب المغانم و المكاسب الشخصية و الفئوية .
و من جهة ثانية، فقد عملت الحركات التي تدثرت بأغطية دينية على إضعاف الروح الوطنية، حين كانت تشيع على مدى عشرات السنين “أن الوطن هو العقيدة والدين، كما يفهمونه هم، وليس الإنسان و البلاد والتراب، و أن الدولة هي دولة الخلافة و ليس الوطن ذاته”. وعملت الحركات التي رفعت شعارات القومية على “استصغار شأن الدولة الوطنية،و الحكم المسبق عليها بالموت و التبعية ، مقابل التغني بالدولة القومية غير القائمة”. وأغلقت الجامعات أبوابها أمام التفاعل مع المجتمع بكل قطاعاته. وانصرف العلماء والمفكرون والمثقفون إلى علمهم وفكرهم وثقافتهم، بعيدا في معظم الأحوال عن التفاعل والتأثير في المجتمع، والمساعدة على تطويره. وعملت الحكومات بكل إصرار على استبعاد الأحزاب و منظمات المجتمع المدني والمثقفين والعلماء ما استطاعت، مقتنعة بأنها تستطيع أن تفعل كل شيء بمفردها و كما تشاء، دون مشاركة و مساءلة تفسد عليها لذة احتكار السلطة، ومتعة الإستئثار بصنع القرار. وفي مثل هذه الأجواء نشطت القوى الأجنبية لتنفيذ كل ما من شأنه أن يزيد النار اشتعالا، والعرب انقساما و تراجعا، والمنطقة تفتتا و تبعثرا، إبتداء من إسرائيل ومرورا بإيران والولايات المتحدة الأمريكية، و انتهاء بأية دولة لها مصلحة ما في انهيار المنطقة و استمرار استنزافها.
و يبدو أن هناك اليوم إدراكا عميقا بخطورة التطرف والإرهاب، ليس على مستوى المنطقة العربية فقط ، و إنما على مستوى العالم. إذ يجري استدراج المجتمع الدولي نحو الجيل الرابع من الحروب، حيث التكنولوجيا و الإعلام الإلكتروني والتواصل المجتمعي والفكر المتطرف والكراهية و العصابات و السلاح المتقدم والإرهاب . وبات واضحا لكل ذي عقل و ضمير،إن أقوى سلاح لدى المتطرفين والارهابين هو الفكر والثقافة والإعلام والتكنولوجيا و الذي يساعدهم أن يجدوا حاضنات مجتمعية تعطيهم الغطاء و تمدهم بالمرتزقة والمتطوعين و المخدوعين والمحبطين على حد سواء. وما لم يواجهه سلاح مماثل فستكون البيئة المجتمعية بكل احباطاتها الاقتصادية و الإجتماعية والفكرية والثقافية حاضنة عميقة الأغوار للتطرف و الهدم والتدمير والحقد والعنف والكراهية و لسنوات طويلة.
و إذا كانت الدولة ستقوم بدورها فيما يتعلق بمواجهة العنف بالقوة العسكرية والأمنية اللازمة، فهل هناك دور حقيقي لأهل الفكر والثقافة والعلم في هذه المعركة الطاحنة و المحتدمة يبن الاعتدال والتطرف وبين الوطنية والعدمية وبين البناء والتدمير؟ و ما الذي يمكن أن يفعله الفكر والثقافة والعلم في عملية تفكيك البيئة الحاضنة للتطرف ؟
إن خطورة الحالة و تعقيداتها تتطلب من الدولة مواجهة الموقف بوضوح وفاعلية : أولا: الاقتناع العملي العميق الراسخ لدى الدولة، ليس على مستوى القمة و إنما على مستوى الإدارات المختلفة أيضا، بأن الفكر لا يجابهه إلا الفكر، و الإعلام لا يجابه إلا بمثيله، والثقافة العمياء لا تجابه إلا بثقافة مستنيرة، و الإحباط والتهميش لا يهزم إلا بالمشاركة وإحياء الأمل، و أن أهل الفكر والعلم والثقافة المستنيرة هم عماد الدولة الحديثة، وبرهان حيويتها، وضمان استمراريتها، وهم بتفاعلهم مع المجتمع، يمكن أن يغيروا من طبيعة البيئة المجتمعية لتكون رافضة لكي تطرف، مستنكرة لكل مساس بالوطن والدولة، تحت أي عذر من الأعذار. إنهم السلاح الوطني الذي لا يهزم في حروب الجيل الرابع.
ثانيا: أن تنظر الدولة إلى التحولات العلمية و الفكرية و الثقافية و النفسية اللازمة للمواجهة، على أنها مكملة للجهد العسكري والأمني والاقتصادي. وبالتالي لا بد من الاستثمار فيها بالمال والجهد كما في الثقافة والتربية بسخاء. أن ثمن أي قطعة حربية متقدمة يقدر بالملايين، وهذا يكفي للإنفاق على الفكر و الثقافة والتربية لبرامج و فترات كافية.
ثالثا: أن لا تغيير في نفسية المجتمع و طريقة تفكيره إلى الأرقى و ليصبح رافضا لكل تطرف و عنف تحت أي غطاء، إلا من خلال منابر قوية تصل إلى المواطن العادي في أي زاوية من زوايا الوطن. و حتى اليوم ،يكاد أهل العلم والفكر والثقافة أن يكونوا لا منابر لهم إلا في أضيق الحدود، في حين أنها مفتوحة على مصراعيها للآخرين سواء كان ذلك في المحطات التلفزيونية أو شبكات التواصل الاجتماعي أو الكتاب المدعوم . لقد انسحبت الدولة من الساحة الاقتصادية فتاهت بوصلة الاقتصاد وتراجع، وراحت المصانع والشركات تقفل أبوابها وبعضها يرحل إلى خارج البلاد. وانسحبت الدولة من الثقافة والإعلام فتاهت بوصلة الثقافة والإعلام و التعليم والتربية و هبطت الفنون.
رابعا : إن المراكز الثقافية والشبابية يمكن بل و ينبغي أن تأخذ دورا نشطا في التفاعل مع الشباب و العمل على إشراكهم في البرامج الوطنية و التنويرية الثقافية والفنية والرياضية و خدمة المجتمع . و لا بد للدولة أن تستثمر في هذا المجال ،ومن خلال هذه المؤسسات، بقوة حتى تساعد على إنهاء حالة الإحباط لدى الشباب و تتعزز لديهم روح الوطنية القائمة على الإرتباط بالوطن عملا و قولا و تطلعا و أملا.
خامسا: على الدولة أن تعمل على تطوير البيئة الإدارية و الإعلامية والثقافية التي تساعد الأحزاب على ممارسة نشاطاتها كشريك مقبول و مكافئ، باعتبار تلك النشاطات ليس فقط ذات طبيعة سياسية و إنما فيها الفكر و الثقافة والعلم والفن و الإبداع والوطنية . و على الأحزاب أن تستعين دائما بالمفكرين والعلماء والمثقفين لتطير نشاطاتها ووضع برامجها.
و أخيرا فلا بد للدولة أن تحدد الأدوار والمهام التي يتوقع أن تقوم بها وزارات الثقافة والتربية والتعليم والإعلام والشباب لتضع كل منها البرامج اللازمة لكي تساعد المواطن على الخروج من حالة الحيرة و التشتت. على أن مفتاح التغيير هو استعادة الثقة بين الحكومة والمواطن، و استمرار برامج الإصلاح السياسي، و التطوير الإقتصادي المولد لفرص العمل، و خاصة في المناطق الفقيرة في المحافظات و البوادي والأرياف، و إعادة خدمة العلم برؤية جديدة تتعمق فيها خدمة الوطن والمجتمع ،و بذلك يرى الشباب مستقبلهم مشرقا في دولتهم التي يحبون.