بعد سنوات على بدء “الربيع العربي”، ومحاولات اغتياله التي أفضت إلى نتائج كارثية على المجتمعات العربية؛ صرنا نشهد عودة الفرد بانتمائه إلى تصنيفه الأولي؛ العشائري والمذهبي والطائفي، وحتى الجغرافي الإقليمي الأضيق.
ما نراه اليوم هو نتيجة طبيعية للوضع الحالي للنظام العربي، وقبله فشل الدولة الوطنية في حماية أبنائها، وجعلهم جميعا يستظلون بظلها. فصار الفرد لا يرى في هذه الدولة القدرة على الدفاع عن حقه في الحياة، قبل أي شيء آخر.
تفاقمت الحالة مع انهيار الطبقة الوسطى في كثير من المجتمعات، هذا إن كانت قد بقيت موجودة فيها أصلا منذ أمد طويل. فصارت أعمدة هذه الطبقة التي سحقتها الحروب والاقتتال الداخلي، أو حتى السياسات الرسمية، وقودا للخلاف والانقلاب على الدولة التي قضت على حلم هذه الطبقة التاريخي بحياة فضلى، ومجتمعات مدنية يتعايش أفرادها مع بعضهم بعضا رغم كل التباينات الثانوية، طالما أن ما يجمعهم يظل أمراً سامياً.
هكذا، انقلبت الطبقة الوسطى، أو مَنْ كانت كذلك، على الوضع القائم، بعد أن انهار آخر أحلامها ببناء دول صالحة، خالية من الفساد، يحكمها نظام ديمقراطي حقيقي. إذ اندفع الكثير من أبناء هذه الطبقة، في لحظة فقدان أمل في خلق بديل يقوم على منحهم دورا بالمشاركة في صنع حاضر بلدانهم ومستقبلها، نحو “داعش” وأمثاله من التنظيمات الإرهابية التي ظنوا أن فيها ضالتهم المنشودة.
الشباب الذي تشكل وعيه على كذبة “الدولة الإسلامية”، ظن أن فيها الخلاص من الأنظمة الدكتاتورية التي سلبت حقه في الحياة، كما في الإصلاح، فكسرت، بقصد أو من دونه، الطبقة الوسطى التي طالما كانت عماد الدول للبناء والتغيير؛ لما تُعرف به هذه الشريحة من وعي وإدراك للواقع بكل تشوهاته، كما قدرة على صناعة المستقبل وتحقيق أحلام التغيير.
اليوم، جميع المجتمعات العربية بحاجة إلى وصفة تقي الشباب الانجذاب للتنظيمات الإرهابية. وذلك لن يتحقق إلا بإقامة دول رشيدة مدنية، تؤمن بحق الجميع في الحياة، وتعيد الهيبة للطبقة الوسطى التي غرقت في التهميش والإقصاء وغياب العدالة.
معرفة ما حل بالطبقة الوسطى في مختلف الدول العربية، وقراءة تحليلية لأوضاع هذه الفئة، قادران ربما على تقديم تفسير لأسباب انجذاب الشباب لداعش وغيره من التنظيمات الإرهابية.
في الأردن تحديداً، ما يزال الشباب يسعى للانضمام إلى “الدواعش”. وثمة أسر كثيرة صحت على أبنائها وقد صاروا في قبضة “داعش”. ولم تساعد كل ماكينة الإعلام في إيقاظ هؤلاء من وهمهم؛ ربما لأن العلاج ليس حملة إعلامية تحذر وتنذر، بل عمل رسمي حقيقي يعيد بناء الطبقة الوسطى.
كما يحتاج هذا العلاج، أيضا، إلى خطاب سياسي مختلف من الحكومات، يقول للشباب إن مستقبلهم هنا، وإن حقهم في المشاركة مصان، وإنهم بالمشاركة الحقيقية جزء من رسم حاضرهم ومستقبلهم.
واقع الشباب مؤلم؛ فمن ليس منهم موهوما بداعش وأشباهه، هو مشروع مهاجر. ذلك أنه إذ لم يعد يجد أملا هنا، فقد بات يفضّل الرحيل إلى بقعة أخرى، يقدر فيها على الإنتاج والعطاء، ولو بالحدّ الأدنى، ويؤمّن لنفسه وأسرته عيشا كريما.