في زمن انفجار ثورة المعرفة، وبسط سلطة الاتصالات الرقمية الميسرة، بات الإعلام، بأدواته الحديثة المعولمة، عاملاً منافساً على احتلال المركز الأول في صناعة الحدث، وتوجيه الرأي العام، وخلق الانطباعات الذهنية حيال شتى الوقائع المتغيرة، ومختلف المجريات المتسارعة، ناهيك عن النتائج المحتملة لسائر المعارك والصراعات المحتدمة. الأمر الذي أدخلنا عصر الصورة الأبلغ فاعلية من إيقاع الكلمة، وجعل الحرب التي تدور على شاشات التلفزيون أكثر أهمية من قرينتها الدائرة في ميدان المعركة.
لذلك، تم إيلاء الإعلام عناية فائقة أكثر من أي وقت مضى، واعتبرته جميع الأطراف المتحاربة أداة رئيسة من أدوات الحرب الحديثة، لاسيما في حروب الجيل الرابع اللامتماثلة؛ حيث صارت الكاميرا التلفزيونية، بما في ذلك عدسات الهواتف المحمولة، تعادل المدفع الرشاش، وتتفوق في مضائها، أكثر الأحيان، على أشد الأسلحة فتكاً.
على هذه الخلفية، صنعت كل واحدة من الحروب الأخيرة في منطقتنا روايتها الخاصة، وأنتجت نجما لها، من محمد سعيد الصحاف، عشية الغزو الأميركي للعراق، إلى موسى إبراهيم (القذافي) إبان عملية الإطاحة بنظام الجماهيرية الليبية، إلى قاسم عطا في عهد نوري المالكي، إلى شريف شحادة في سورية، وغيرهم من “النجوم” اللاتي تلألأت بعض الوقت في فضاء الإعلام الحربي، وانطفأت تباعاً.
نستحضر كل تلك النماذج البائسة، ونستعيد ما تركته لنا في الذاكرة العامة من سخريات لاذعة، ومن أداء متهافت، قوامه الافتراء والاختلاق والتضليل، كي نقارب بزوغ نجم جديد في معركة “عاصفة الحزم”، ذي بريق مختلف، اسمه أحمد العسيري، راح يستقطب الاهتمام، ويراكم الإعجاب، بإطلالته اليومية المنتظمة منذ ثلاثة أسابيع، من خلال إيجازاته الموثقة بالصور الجوية لوقائع العملية المتواصلة في اليمن، وعبر إجاباته الرصينة عن أسئلة المراسلين، بطريقة مختلفة تماماً عما كنا نشاهده من ناطقين عنتريين في الحروب الماضية.
ومع أن من الظلم والإجحاف الشديدين، وضع العميد طيار أحمد العسيري، قائد “التورنيدو”، في سياق واحد مع الأفاقين المشار إليهم آنفاً، إلا أن الضد يظهر حسنه الضد. وهذا ما يتجلى حقاً في مظهر العميد وفي مخبره، حيث لا أثر للانفعالات ولا للمبالغات، ولا موضع للتهويل أو محلا للمهاترات؛ فأنت لا تجد في أقواله كلمة زائدة عن الحد، أو عبارة ناقصة في العرض، ناهيك عما يتسم به العميد من تواضع جم، ولباقة يغبط عليها، وتلقائية لا يجيدها سوى قلة من رجال الإعلام المجربين.
نحن، إذن، أمام زمنين عربيين مختلفين، وأمام ذهنيتين من عالمين متباعدين. الأولى، كانت تعتمد على إنكار الواقع وتكريس الادعاء الفارغ. فيما الثانية، تواصل تسمية الشيء باسمه، وترك الحقيقة تدافع عن نفسها بنفسها، خصوصاً أن الوقائع أبلغ قولاً من كل إنشاء، وأن الكذب الذي كان له حبل قصير لم يعد له حبل في عصر الصورة، التي تغني الواحدة منها عن تدبيج المقدمات المطولة، وقرض المعلقات الطوال.
وإذ نطري اليوم إطلالة الناطق باسم “عاصفة الحزم”، ونثني على ما يتمتع به من خصال تدعو إلى الثقة وتبعث على الإعجاب، فإننا نطري في واقع الأمر الإدارة الكفؤة لمعركة سيكون ما بعدها غير ما كان قبلها، في كل ما يتصل بالواقع العربي ومستقبل هذه المنطقة، وكي نقارن أيضا صورتنا العامة في مرآتين؛ الأولى صورة متكسرة مليئة بالتشوهات، كانت تثير الأسى وتعقد المرارة في الحلوق. والثانية، صورة تشارف أعز ما كانت تتطلع إليه النفوس الملتاعة، من امتلاك الإرداة والقدرة على فعل عربي مشترك، يرقى إلى مستوى التحديات.
لقد كان لافتاً خلال الأيام القليلة الماضية، أن الإعلام الإيراني الناطق بالعربية، صب جام غضبه على الناطق باسم “عاصفة الحزم”، وطفق يعمل في محاولاته المركزة، على تبهيت الصورة العربية السعودية الجديدة، الطالعة من وهج معركة متقنة بكل المعايير العسكرية والسياسية والإعلامية، في مسعى فاشل للنيل من المضاعفات الإيجابية لهذه المواجهة الممتدة إلى ما هو أبعد من حدود الرقعة اليمنية، الأمر الذي يزيد من درجة الاطمئنان لدى كل من تخاطبهم رياح هذه العاصفة، وترفع من درجة اليقين بأن الأمور تجري وفق أشرعة السفينة العربية هذه المرة.