رغم الحالة المتردية التي وصلت إليها المنطقة، وانزلاق العديد من الأقطار العربية نحو الحروب والصراعات المذهبية والعرقية والطائفية ،فإن أبواب الخروج من الأزمة لم تغلق نهائيا. بل في وسط هذا الظلام تلوح بوادر خيوط من ضياء لمنعطف تاريخي طال انتظاره. وهو المنعطف الذي ينبغي السعي نحوه، و تعزيز الفرصة التاريخية التي يحملها، و استثمارها بكل حكمة و جرأة و عقلانية و حنكة من طرف السياسيين والمفكرين وقادة الرأي، وليس مجرد انتظار مجيئها على رصيف التاريخ أو التشكيك بإمكانياتها.
منذ بدأت مصر تستعيد دورها العربي بعد غياب ثقيل ، و ساندتها بذلك كل من السعودية والأردن و الأمارات والكويت والبحرين ، وتعززت هذه المساندة في مؤتمر مصر الإقتصادي ،و تبع ذلك عاصفة الحزم، و مؤتمر القمة في شرم الشيخ، و الدعوة إلى تشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة ،بدأت خيوط من الأمل تتشكل لدى أجزاء عريضة من الجماهير العربية بعودة المنطقة إلى ذاتها. إذ تبين للحكومات و للجماهير، و بشكل قطعي، أن التعويل و الإعتماد على القوى الدولية و خاصة الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على أمن المنطقة و استقرارها و ضمان بقاء الدول و الأنظمة و إعطائها الشرعية لم يعد ممكنا. و أن الجيل الرابع من الحروب لا يمكن للقوى الأجنبية أن تتعامل معه بكفاءة أو تصل فيه إلى نقطة الحسم.فهو جيل حروب الشعوب أنفسها بقواها و إمكاناتها الخشنة (العسكرية) والناعمة على حد سواء. إضافة إلى أن تناقض المصالح و تضارب العلاقات، و ضغوط “اللوبيات” السياسية والصناعية و تجارة السلاح، والحسابات و الترتيبات الخفية لكل من روسيا و إسرائيل و إيران كل ذلك يحول دور الولايات المتحدة و أوروبا إلى حالة هلامية واهية التأثير.لقد تطورت رؤية إستراتيجية جديدة لدى أمريكا وأوروبا و بتأييد إسرائيلي قوي، بأن” أفضل طريقة للسيطرة على الأحداث في المنطقة العربية هو تحويلها ،من خلال صراعاتها الداخلية، إلى دويلات صغيرة كل واحدة منها ضئيلة الوزن هامشية التأثير سهلة التطويع،و إعطاء الفرصة للدول الإقليمية الفاعلة :تركيا و إيران و إسرائيل لتتولى شأن الحدود الخارجية للمنطقة. وبذا لن يتأثر العالم بما يجري في هذه الدويلة أو تلك”. و هذا يعني أن على المنطقة العربية بأسرها أن تدرك بأن الخطر داهم على الجميع.
.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه أدوات و أشكال الصراع و توشك بعض الدول على الانهيار، فهناك بعث جديد للروح الوطنية والقومية، بمفهوم جديد ورؤية واقعية على المستوى الشعبي والقيادات الفكرية والثقافية. إن العالم العربي و قد صدمته عاصفة الأحداث يتحرك ببطء وجرأة من حالة اليأس واللامبالاة إلى الإهتمام و الرغبة في العمل. ومن جهة أخرى فإن التوافق العربي العام على محاربة التطرف والإرهاب، ومقاومة الفكر المنحرف الذي يتدثر بالدين أو الطائفة، كل ذلك ينبغي أن يشكل بيئة جديدة ومناسبة لضم الصفوف والعمل العقلاني المشترك على المستوى الوطني والقومي على حد سواء. وهذا يضع على قيادات الدول العربية و مفكريها و علمائها و قواها السياسية والمدنية مسؤولية التقاط اللحظة التاريخية،و التحرك في الاتجاه الصحيح وعلى ثلاثة محاور رئيسية:
الأول: الإصلاح الحقيقي الناجز. فليس هناك من بديل أبدا عن إصلاح شِامل و فق برنامج زمني محدد، يحقق للجماهير في الوطن الواحد النمو الاقتصادي الكافي و السريع، و الديموقراطية والمساواة، ودولة القانون والمؤسسات و المواطنة للجميع، ومشاركة القوى السياسية المرتبطة بالوطن فقط و المؤمنة بمستقبله و الملتزمة بدستوره و قوانينه.إن الأنظمة والدول التي تقوم على الإستئثار بالحكم والسلطة، وحكم الفرد أو الطائفة، لا تستطيع الإستمرار إلا لفترة محدودة، و هي لا تستطيع أن تتنبأ بموعد انهيارها ولا بموعد الثورة عليها ورفضها. وهذا هو الدرس الأول من الربيع العربي ينبغي استيعابه.
الثاني: التعاون الجاد بين الأقطار العربية. ومع أن أحدا لا يتوقع أن تدخل الدول العربية مجتمعة في برنامج واحد وفي نفس الوقت،إلا أن اشتراك مجموعة صغيرة من 7 إلى 10 دول بينها مصر و السعودية و الأردن والكويت والأمارات يكون في البداية كافيا. كما أن التعاون ليس بالضرورة أن يكون كاملا شاملا مغطيا لكافة النشاطات ابتداء من الثقافة ومرورا بالاقتصاد وانتهاء في مواجهة إسرائيل. أن على الأقطار العربية المتعاونة أن تأخذ بمبدأ التدرج و المراكمة. فإذا كان الاتحاد الأوروبي قد بدأ قبل (60) عاماً بالتعاون في باب واحد هو “الحديد والفحم”، باعتبارهما عصب الصناعة في أوروبا، وخلال السنوات تطور هذا التعاون ليشمل كل شي تقريبا، فلماذا لا تتبع “مجموعة التعاون العربي الجديدة” نفس الأسلوب؟. وفي الحالة العربية فإن التعاون في مجال محاربة “التطرف والإرهاب والتدخل الأجنبي” كافيا في البداية للبناء عليه. فهذا يتضمن الكثير من المجالات الهامة مثل التعاون العسكري والسياسي والفكري والثقافي والتربوي والإقتصادي والعقائدي وغيرها.
الثالث: .المصالحة و إنهاء الأزمات. وهذا يتطلب من الأقطار العربية التي تدخل في مجموعة التعاون أن لا يقتصر تعاونها على المسألة العسكرية في محاربة الارهاب، وإنما عليها أن تعمل من خلال قنوات سياسية و أكاديمية و مدنية على إنهاء الاقتتال والمصالحة من خلال الحوار في الدول التي انزلقت في حروب و نزاعات أهلية. وهنا يمكن للدول المتعاونة أن ترسل مبعوثين إلى جميع الإطراف في البلد الواحد وخاصة سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان ودعوتهم للجلوس والتفاوض للوصول إلى حلول سياسية للصراع في بلدانهم على قاعدة” منتصف الطريق، ولا غالب ولا مغلوب، “. إن العمل على المصالحة والسلام هو مساهمة في إطفاء الحرائق قبل أن تمتد إلى بلدان أخرى في المنطقة، وقبل أن تقع مزيد من الانهيارات.
أن الطريق شاق و طويل ،و لكن الكتلة الحرجة للإنطلاق موجودة ،و تطلع الجماهير لخروج أوطانها من الكوارث القائمة أو المحتملة كبير، و استعدادها للعمل قوي، ولكنها بحاجة إلى مبادرة الحكومات و الأحزاب والقوى المدنية و آهل العلم والفكر، و رجال الدين المستنيرين. إن القيادات العربية التي تتولى السلطة في هذه الحقبة الصعبة تقع عليها مسؤولية مستقبل بلدانها،فإن هي تقاعست و ترددت و أحجمت و سوفت تكون قد ساهمت في الكارثة، و إن هي أقدمت وأبصرت الحقيقة،و أطلقت برامج الإصلاح والتعاون و إنهاء الأزمات، و استعملت جميع الموارد المتاحة لها، و شاركت في العمل والجهد، تكون قد دخلت التاريخ بصنع مستقبل جديد.