العزب الطيب الطاهر/الثمن الباهظ لوقف التنسيق الأمني

لا تتورع إسرائيل عن اللجوء إلى كل وسائل الضغط على الفلسطينيين لدفعهم لتقديم المزيد من التنازلات لصالح مشروعها الاستيطاني الاستعماري التوسعي في المنطقة.
وكان آخر تجليات ذلك مصادرة وحبس المستحقات المالية الخاصة بالسلطة الوطنية برئاسة محمود عباس أبو مازن، الناجمة عن عوائد الضرائب والجمارك التي تحصل في المنافذ الإسرائيلية عن المنتجات الفلسطينية، في ظل معادلة تربط بين استمرار تزويد السلطة بالمال، سواء من قبل الدولة العبرية ذاتها أو من الولايات المتحدة، أو من الدول المانحة الأخرى وبين مواصلتها التنسيق الأمني. ولكن يبدو أن الخطوة الإسرائيلية، أدت إلى نتائج عكسية تمثلت في إجبار الفلسطينيين على الرد من زاوية ذات المعادلة التي تقايض الأمن بالمال.. فما دام الأمر “لا مال إذن.. فلا أمن” وعلى الولايات المتحدة والدول المانحة حينها تحمل المسؤولية.
غير أنه ما صدر على صعيد وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل هو مجرد توصية من المجلس المركزي الفلسطيني. صحيح أنها صدرت بالإجماع بدون اعتراض من أي فصيل، ولكن القرار النهائي منوط بالرئيس أبو مازن واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكلاهما لم يبت فيه حتى الآن بشكل رسمي، ربما ترقبا لمرحلة ما بعد إجراء انتخابات الكنيست الأخيرة التي دفعت بتصدر بنيامين نتنياهو لصدارة المشهد السياسي الإسرائيلي المتطرف في ظل تحالفه مع عتاة المستوطنين والمتطرفين، مما يؤشر إلى أن خط التشدد الإسرائيلي الذي قاده نتنياهو خلال ثلاث دورات، تولى فيها رئاسة الحكومة خلال السنوات الماضية، سيتواصل خلال الدورة الرابعة، وبالتالي فإنه لن يتراجع عن قراره بمصادرة أموال الضرائب والجمارك الفلسطينية، مما يضع السلطة الوطنية في مأزق فائق الضيق، الأمر الذي قد يجعل من تنفيذ قرار وقف التنسيق الأمني خيارا ضروريا في المرحلة القادمة.
ولاشك أن وقف التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال برز في الآونة الأخيرة كمطلب شعبي واسع، فضلاً عن كونه مطلباً لمعظم الكيانات السياسية الفلسطينية، خاصة أنه لم يكن ذا جدوى على صعيد وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، من قبل الجيش والمستوطنين، كما لم يؤدّ إلى إقناع إسرائيل بجدوى توجه القيادة الفلسطينية نحو التسوية في دولة فلسطينية.
وفي هذه المسألة بالذات، أي مسألة التنسيق الأمني، بدت إسرائيل كأنها تأخذ مكافأة على احتلالها لأراضي الفلسطينيين، والسيطرة على حياتهم، وتنكيد عيشهم، إذ باتت تعيش في واقع من الاحتلال المريح والمربح، من كل النواحي.
وعلى العموم فإن التعاطي مع قضية التنسيق الأمني ليس بيد الفلسطينيين، أي أنه لا يقتصر على ما يريدونه، أو ما يرغبونه، إذ إن إسرائيل هي التي تسيطر على مجمل نواحي الحياة في الأراضي الفلسطينية، وهو ما يعني أن لديها ما تقوله، والأهم ما تفعله، لإجهاض هذه الخطوة، والرد عليها. فهي التي تتحكم بحركة الفلسطينيين بين القرى والمدن، وهي التي تسيطر على المعابر الخارجية، فضلاً عن أنها تسيطر على التجارة وحركة الأموال، وعلى البنى التحتية، إلى درجة أن كل تفصيل يخص حياة كل شخص في الضفة وغزة، يتوقف على قرار إسرائيلي.
وذلك يعني أن ثمنا باهظا ينتظر الفلسطينيين، في حال إقدامهم على تنفيذ قرار المجلس المركزي لمنظمة التحرير، والسؤال، هل يمكن للعرب أن يوفروا عنصر إسناد حقيقيا لتوفير متطلبات السلطة، التي تواجه بالفعل أزمة مالية شديدة الوطء، منذ مصادرة الدولة العبرية لمستحقاتها من الضرائب والجمارك؟.
ووفقا لما يقوله السفير محمد صبيح الأمين العام المساعد للجامعة العربية لشؤون فلسطين والأراضي المحتلة، وأمين سر المجلس المركزي، والذي شهد اجتماعاته الأخيرة برام الله التي قررت وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وإحالة القرار إلى القيادة الفلسطينية للبت فيه، لكاتب هذه السطور، فإن السلطة الوطنية تكابد نقصا واضحا في موازنتها بعد خسارتها مبالغ تتراوح بين 120 إلى 140 مليون دولار شهريا هي حصيلة أموال الضرائب والجمارك، وهو ما أدى إلى أن معظم العاملين بمؤسساتها لم يحصلوا على مرتباتهم منذ أكثر من ثلاثة أشهر. وعندما تتحصل على بعض الأموال، فإنه يتم صرف المرتبات في حدود دنيا، خاصة أن الالتزام العربي بتوفير شبكة الأمان التي وافق عليها القادة العرب منذ القمة العربية التي عقدت في بغداد في مارس 2012 بقيمة 100 مليون دولار شهريا ما زال دون المستوى وضعيفا للغاية. ولم يشأ صبيح أن يكشف لي عن أسماء الدول التي لم تدفع مخصصاتها في هذه الشبكة أو الأرقام التي قامت بدفعها الدول القليلة جدا، وهي كلها هشة لا تلبي متطلبات يوم واحد في حياة الفلسطينيين، حيث تتراوح أعداد الموظفين بالجهاز الإداري والحكومي للسلطة الوطنية بين 160 و180 ألف موظف، إضافة إلى 40 ألفا من موظفي سلطة “حماس” في غزة، الذين تطالب الحركة بضمهم إلى مرتبات السلطة، أي أن العبء ثقيل وضخم وقيمة مرتبات هذه الأعداد تستنزف نصف موازنة السلطة التي تصل إلى بليوني دولار شهريا، يأتي أغلبها من الدول المانحة وبالذات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، فضلا عن مستحقات السلطة لدى إسرائيل من الضرائب والجمارك.
وثمة معضلة إضافية –كما يقول صبيح – تتمثل في إمكانية تنفيذ واشنطن لتهديدات الكونجرس لقطع المساعدات المالية عن السلطة والتي تتجاوز الـ600 مليون دولار سنويا. مما يعني أنها ستواجه كوارث مالية وإنسانية – والكلام لكاتب هذه السطور- وبالتالي فإنه ليس ثمة خيار أمام السلطة سوى البوابة العربية. والتي باتت مطالبة بالإسراع في توفير شبكة الأمان المقررة للسلطة، حتى لا تسقط في براثن الفك الإسرائيلي المفترس والذي سيشهد المزيد من الشراسة بعد عودة نتنياهو إلى السلطة مكللا بفوز مقدر، في الانتخابات الأخيرة، ومدججا بأسلحة الرفض لكل من حل الدولتين، أي أنه ما دام مستمرا في السلطة، فلن تكون ثمة إمكانية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وبالذات في ظل مواصلة مشروعه الاستيطاني الاستعماري التوسعي، فضلا عن تهديد ائتلافه الحكومي الجديد باللجوء إلى سياسة قطع الرقاب، وتهويد القدس وإخفاء قطاع غزة من الوجود، تهجير فلسطيني ١٩٤٨، ضمن مشروعه بإعلان إسرائيل دولة يهودية كاملة.
والمؤكد أنه لو استمر التقصير العربي في توفير شبكة الأمان العربية للسلطة الفلسطينية، فإن ذلك سيدفع إلى المزيد من العدوانية الإسرائيلية واشتداد الضغوط على الشعب الفلسطيني، مما قد يؤدي إلى تنفيذ أبو مازن لتهديدات سابقة له بحل السلطة الوطنية وهو خيار تخشاه الدولة العبرية بالدرجة الأولى، لأنه سيحملها مسؤولية إدارة الأراضي الخاضعة لاحتلالها في الضفة الغربية وغزة، مما ينطوي على كلفة عالية للغاية بشريا وماليا، رغم بقائها كقوة احتلال في معظم مدن الضفة، على نحو يجرد السلطة الوطنية من الكثير من صلاحياتها. ولكن هذا الخيار سيعيد الفلسطينيين في الوقت ذاته إلى المربع الأول الذي كانوا عليه قبل اتفاقية أوسلو في العام 1993، ومن ثم سيخسر معه الجانب الفلسطيني الكثير مما تحقق على الصعيد السياسي، وبالذات الاعتراف الخارجي الواسع بالدولة الفلسطينية وهو ما يستوجب تحركا عربيا لإعادة الأمور إلى نصابها على الصعيد المالي والاقتصادي، فضلا عن الدعم السياسي لتوجهات السلطة، سواء إلى المحكمة الجنائية الدولية، أو التقدم بمشروع قرار جديد لمجلس الأمن لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وفق جدول زمني لا يتجاوز عامين.
وثمة آمال قوية، على القمة العربية السادسة والعشرين التي ستحتضنها مدينة شرم الشيخ المصرية يومي السبت والأحد القادمين، لتشكل نقلة نوعية في التعاطي العربي مع مختلف مفردات القضية الفلسطينية، وبالذات في الشق المالي الذي ينقص السلطة والشعب الفلسطيني، فهل تجتاح النخوة العربية قمة العرب في شرم الشيخ لصالح إنقاذ الفلسطينيين من حصار وخناق دولة الاحتلال؟.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري