ليس هناك من شيء أكثر إحباطا للوطن والمواطن، من الدوران حول الثوابت الوطنية ووضعها موضع تساؤل وتشكيك، و كذلك ليس هناك أسوأ من إغفال المصالح الوطنية والتي تتغير و تتطور مع الزمن، من أجل مصلحة حزب أو فئة أو مجموعة تتمسك بما لديها و بأي ثمن. وقد يجد البعض آن الطعن بوطنية الآخر، أو بعقيدته،أو بأخلاقه هي أسهل الطرق للهجوم السياسي، والمناكفة الشخصية من اجل مصالح لا تمت للوطن أو العقيدة أو الأخلاق بشيء.و في ظل المتغيرات المتلاحقة و الفوضى التي تعم المنطقة و تتهدد شعوبها و مستقبلها ينبغي أن تتغير الأساليب حتى نصل جميعنا و خاصة في وطننا الأردن إلى نقطة الحسم القاطعة، وهي: أن الوطن بأرضه وشعبه ونظامه و دستوره يمثل الثابت الذي ليس عليه جدال. فالأردن دولة لها مكانتها على المستوى الإقليمي والدولي، ولكن مكانتها الكبرى تكمن لدى مواطنيها من أصغرهم إلى أكبرهم. وقد آن الأوان للخروج من الرؤية التاريخية الضيقة لدى البعض، والتي لا ترى الأشياء إلا من خلال الماضي، سواء كان هذا الماضي اتفاقية دولية تعود إلى الوراء مئة سنة أو مقولة متوارثة تعود إلى ألف سنة.
في المؤتمر الذي نظمه مكتب القدس للدراسات بعنوان “نحو إستراتيجية شاملة لمحاربة التطرف – فرص التوافق الوطني وتحدياته” تحدث الدكتور عبدا لله النسور رئيس الوزراء فقال” إن الأردن بالوقوف في وجه الارهاب إنما هو يدافع عن ديننا ووطننا وأمتنا والإنسانية جمعاء. و إن الجماعات المتطرفة والإرهابية نشرت رائحة الموت والتفجير وجز الأعناق وتهجير الناس وتدمير مقدرات الأمة بصورة تجاوزت الخيال”.
وحينما تعرض هو و غيره من المتحدثين لبذور التطرف الديني وجذوره التاريخية والفكرية إلى جانب الأسباب الاقتصادية الاجتماعية والإنسانية، هب البعض ليتهم الرئيس و المتحدثين بالهجوم على الإسلام، ومعاداة الدين، خاصة بعد أن أكد في كلمته أن” الأردن دولة حديثة تسير نحو الديمقراطية وهي ليست دولة دينية”. لقد أكد النسور، و هو على حق، أن الأسباب للتطرف متشابكة ومتداخلة، ومن أول الأسباب انتشار الجهل بالدين. وهذه العبارة حقيقة واقعة تفسر كيف يجد التطرف باسم الدين حاضنة له في المجتمع. و هي دفاع عن الدين قبل كل شيء وليس هجوما عليه. ذلك أن المتطرفين لا يتقيدون أبدا بما ورد في كتاب الله من حيث الرحمة و العدل والعقل والعمل والإنسانية والجدال بالتي هي أحسن وحرية الدين و قبول الآخر و مكارم الأخلاق وغير ذلك من القيم النبيلة، وإنما يشوهون الدين بالتكفير و الإستعلاء والتفريق بين الناس والغلظة و الوحشية. يعودون في ذلك إلى قصص أو تفاسير أو أحاديث ضعيفة و مدسوسة لا يقبلها عقل و لا علم و لا دين ،تحض على القتل والذبح والسبي والاستعباد.
وذهبت المناكفة السياسية لرئيس الوزراء لتفسير قوله بأن الأردن ليس بدولة دينية إلى أنها دولة “لا – دينية” وهو أبعد ما يكون عن المقصود. أن تصيد الكلمات في المسائل الوطنية أمر غير مقبول، كما أن الانحيازات الحزبية والمصالح الفئوية ينبغي أن تتلاشى أمام المصلحة الوطنية. فأحد قادة الجماعة رفض أن يصف داعش بالإرهاب على الرغم من أن الأردن بلده في حالة حرب معها، و على الرغم من كل ما قامت ولا تزال تقوم به من اعملا ارهابية لم تسجل في التاريخ الحديث. يستطيع المناكفون أن يجدوا عشرات الأسباب ابتداء من المؤامرات الأمريكية ومرورا بالحرب ضد الإسلام و لكن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا.
لقد آن لنا جميعا أن ندرك ، و آن للقوى السياسية ذات الطابع الديني أن تدرك أولا انه في المسائل الفكرية والعقائدية المجتمعية ليس المهم ما يفكر به جهابذة العلماء وعظماء المفكرين وعباقرة المجتهدين، وإنما “المهم والاهم هو ما يفهمه عامة الناس من الفكر والعقيدة”. و”الأهم من نظريات الشيوخ وتفسيراتهم المعقدة هو ما يتداوله الإنسان البسيط وما يسمعه في حياته اليومية وما يصدقه و يستقر في وجدانه”. ثانيا من الواضح لكل ذي عقل أن تراكمات خاطئة من التأويلات والتفسيرات للدين قد استقرت في العقل المجتمعي على مدى السنين وجعلته يقبل أفكارا بعيدة كل البعد عن قيم الدين الصحيحة وعن التغيرات الزمانية والمكانية والموضوعية. ثالثا أن الأمر يستدعي بالضرورة أن يتحرك كل من هو حريص على الدين والعقيدة إلى المراجعة والتخلص من التفسيرات والتأويلات غير الصحيحة وعير المتوافقة مع العلم والعقل ليعود الدين في عقل الإنسان العادي وفي ضميره وفي سلوكه ذلك الدين السمح الإنساني القابل للتعددية والحرية والعقل والعلم.
رابعا: أن ليس من احد هدفه الهجوم على الإسلام آو انتقاده أو الانتقاص من مكانته. ولكن ما يقوم به الكثيرون من المتطرفين وشبه المتطرفين هو الذي يجلب النقد والتخوف لأنهم يفعلون ذلك باسم الإسلام وليس بصفتهم الشخصية. والكثيرون يسكتون على ذلك.خامسا أن المسألة الوطنية اكبر من أي مسألة حزبية أو فئوية أو جماعية أو تنظيمية. وحين يكون الوطن الدولة في خطر فعلى الجميع الالتفاف حوله لحمايته والتخلي عن أي التزامات تتعارض مع ذلك.سادسا أن الناشطين المسلمين والقوى السياسية والمفكرين الإسلاميين إذا كانوا حتى الآن لا يدركون ولا يعترفون بأن الفكر الديني المتراكم (وليس جوهر و صحيح الدين) بحاجة إلى مراجعة وتخليص من كل الشوائب فمعنى ذلك إنهم لا يدركون العصر أبدا و لا يدافعون عن الدين سابعا: أن مستقبل المنطقة لا يصنعه سوى الوطنية بكل التزاماتها ولا يضيء الطريق سوى العلم والعقل والعمل والعقيدة الصافية من كل شوائب التكفير والتطرف والإرهاب.