بخلاف أطراف عديدة مشاركة في التحالف الدولي ضد الإرهاب، احتفظ الأردن بـ “شعرة معاوية” مع النظام في دمشق … تدهورت العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوياتها، وشن النظام حملة اتهامات للأردن بتدريب وتسليح وتهريب “إرهابيين” إلى داخل المحافظات الجنوبية، وأطلق السفير المبعد أشد الحملات الانتقادية للسياسة الأردنية، وتقطّعت أواصر التواصل الأمني وربما سُدّت قنوات الاتصال الخلفية … لكن العلاقة الأردنية السورية، لم تصل حد القطع والقطيعة، فظلت السفارة السورية تعمل في عمان وإن من دون سفير، وثمة تقارير تتحدث عن مستوى خفيض من الاتصالات “العملانية”.
الأردن الذي استهجن اتهامات له بالازدواجية من قبل النظام وحلفائه، إذ أنه يحارب داعش في العراق ويدعم “النصرة” في دمشق كما يقول هؤلاء، لم يخف استعداده لفعل كل ما يمكن فعله، لحفظ أمن محافظاته الشمالية على أقل تقدير، خصوصاً بعد أن خَبِرَ جنوب سوريا، كما شمالها، “فراغ الدولة”، الذي طال واستطال حتى اشتمل على أكثر من نصف مساحة العاصمة دمشق ذاتها، ذات يوم.
ما كان الأردن ليقف مكتوف الأيدي وهو يرى المناطق الحدودية تتحول إلى مسرح للسلاح والمسلحين، وملعب للإرهابيين وأجهزة الاستخبارات، فكان طبيعياً أن يفعل في جنوب سوريا، ما سبق له فعله، في غرب العراق في الفترة من 2005 -2008، مع إلحاح أشد واهتمام أكبر هذه المرة، بالنظر لكثافة السكان الأردنيين في الشريط الضيق الممتد من عمان إلى الحدود السورية (أقل من 100كم)، مقابل ضعف شديد في الكثافة السكانية الموزعة على ألوف الكيلومترات المربعة المحاذية للحدود مع العراق.
أن يقال بأن الأردن دعم عشائر سوريا في المنطقة وفصائل من الجيش الحر أو “المعارضة المسلحة المعتدلة”، هذا أمر قابل للتصديق، والأردن غير معني بنفيه، طالما أننا نتحدث عن إجراءات احترازية لتحقيق الهدف المشار إليه تحديداً … لكن أن يقال إن الأردن يدعم “النصرة”، فهذا أمر عصيّ على التصديق والقبول، خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار السجل التاريخي الحافل من المواجهة بين الأردن والقاعدة (واستتباعاً النصرة)، ووجود أعداد من معتقلي “النصرة” في السجون الأردنية، يفوق أعداد معتقلي “داعش”… اللهم إلا إذا كان القائلون بهذه الاتهامات، لا يرون في المعارضات السورية سوى “داعش” و”النصرة”، أو أنهم من أنصار اعتقال لؤي حسين ورجاء الناصر وعبد العزيز الخيّر بتهم الإرهاب (.!).
على أية حالة، لم تكن هذه المقدمة، سوى توطئة ضرورية، للخوض فيما نحن بصدده في هذه العجالة، وهو اقتراح بأن تقدم الدولة الأردنية على إجراء تمرين ذهني، من خارج الصندوق، وأن تنظر بجدية في سيناريو فتح قنوات تواصل وتعاون مع السلطات في دمشق، واستتباعاً، الدخول في تنسيق أمني وعسكري معها، لحفظ امن المحافظات الجنوبية وبسط سلطة الدولة السورية عليها وتحصينها في مواجهة “النصرة”.
مثل هذا السيناريو، ينطلق من عدة اعتبارات ويبني على عدة تطورات ويسعى في تحقيق عدة أهداف … فهو أولاً يبني على موقف أردني حازم، يربط فتح الحدود مع أية دولة مجاورة بوجود “قوات شرعية” على المعابر والمنافذ الحدودية … إذ بخلاف تركيا التي أبقت جانبها من الحدود مفتوحاً حتى عندما تكون قوات “داعش” على الجانب الآخر … الأردن حريص على عدم اقتراب أية فصائل أو قوات غير نظامية من معابره الحدودية مع سوريا.
وهو ثانياً، يبني على تطور مهم آخر، وهو تقدم الجيش على عدة محاور على الجبهة الجنوبية مقابل تراجع ملحوظ لمقاتلي “النصرة”، وتحديداً في محافظة القنيطرة وريف درعا الغربي … وآخر ما يريد أن يراه الجندي المرابط على الجانب الأردني من الحدود مع سوريا، هو “جهاديي النصرة” على الجهة المقابلة من الحدود.
وأحسب أن تجربة السنوات الأربع الفائتة، أظهرت فشل الرهان على “المعارضة المسلحة المعتدلة”، التي سرعان ما تخلي ساحات القتال، أو تلتحق بـ “داعش” أو “النصرة”، أو تسلم أسلحتها وتعود إدراجها …. وآخر تجليات هذه الظاهر، مسلسل الانهيارات السريعة لحركة “حزم” التي عقدت عليها واشنطن كثير من الآمال العراض، قبل أن تتبخر وتتوزع بأسلحتها على “النصرة” و”الجبهة الشامية” التي تعد مزيجاً غريباً من الإخوان والسلفيين.
وهو ثالثاً، ينطلق من سياسة أردنية فحواها أننا لسنا نحن من سيقرر مستقبل سوريا، وليست مسؤوليتنا أن نقرر ما إذا كان الأسد جزءاً من المشكلة أم جزءاً من الحل، فهذا شأن سوريا والسوريين، ولقد قاوم الأردن ضغوطاً جبارة، من قبل دول عربية وازنة وحليفة (والأهم مانحة)، كانت تستهدف توريطه فيما يتخطى أمن حدوده الشمالية، والمطلوب اليوم، الاستمرار في هذه السياسة، ولكن مع تغيير أدواتها وتكتيكاتها … ومن مصلحة الأردن أمنياً، أن يتعامل مع النظام في دمشق، على أن يضطر للاختيار في تعاملاته ما بين “النصرة” أو “حزب الله” الذي يخوض معارك الجنوب السوري، ومن موقع قيادي هذه المرة.
كما أن هذا السيناريو، يستجيب (رابعاً)لعمليات تغيير واسعة طرأت على مواقف دول وأطراف فاعلة من النظام السوري … فالمؤكد من دون مواربة، أن اتصالات أمنية رفيعة المستوى قد جرت بين واشنطن ومسؤول أمني سوري رفيع … والمؤكد من دون شك، أن عواصم أوروبية عدة، تجري اتصالات ومشاورات ذات طبيعة أمنية مع دمشق … والمعلوم أن عواصم عربية تعيد النظر في مواقفها من الكويت إلى تونس مروراً بمصر عبد الفتاح السيسي… والموفد الدولي ستيفان دي ميستورا، صرح بأن الأسد جزء من الحل وليس جزءاً من المشكلة … وليس بمقدور الأردن أن ينتظر حتى تغير آخر دولة من دول التحالف موقفها من نظام الأسد، لكي يبدأ التفكير “خارج الصندوق” ويشرع في تفتيح قنوات التنسيق والتعاون الأمني والعسكري، وفي الحدود التكتيكية الوقائية، وفي المناطق الحدودية تحديداً، وبهدف تحصين أمن شمال الأردن.