سال خلال الأيام القليلة الماضية حبر كثير عن حادثة الهجوم في باريس على مجلة «شارلي إيبدو». كان لا بد أن أختار. اخترت مقالتين إحداهما لأستاذ في الفلسفة في جامعة ييل الأميركية. وهو أميركي يهودي. والأخرى لصحافي أميركي معروف، مسلم من أصول هندية. ظهرت المقالتان في يوم واحد، الجمعة الماضي. الأول نشر مقالته في الـ «نيويورك تايمز»، والثاني في الـ «واشنطن بوست». كل منهما نظر إلى الحادثة من زاوية مختلفة، لا تتناقض بالضرورة مع زاوية الآخر، وقد تتكامل معها في نهاية التحليل. الأول هو جيسون ستانلي، والثاني فريد زكريا. ينطلق ستانلي من كون فرنسا أحد الأمكنة التي ولدت فيها ثورة الديموقراطية الليبرالية، فإن التعبير بالسخرية لعب فيها دائماً دوراً خاصاً. فالسخرية، كما يقول، منهج أساسي يستطيع العقل من خلاله مخاطبة السلطة. في هذا الإطار استخدم رسامو الكاريكاتور في مجلة «شارلي إيبدو» أسلوب السخرية للاستهزاء من الشخصيات الدينية الرمزية للإسلام، لكنهم أخضعوا أيضاً البابا فرنسيس لاستهزاء مماثل. لم تكن أية شخصية ممثلة لسلطة بمأمن من نهج هذه الصحيفة. هنا سيبدو، كما يلاحظ ستانلي، أن «اعتبار شارلي إيبدو تستهدف الإسلام بالسخرية من دون غيره هو اعتبار ليس في محله». لكن يدرك جهاز التحرير في الصحيفة، كما يقول أستاذ الفلسفة، بأن في فرنسا «اختلافاً بين السخرية من البابا، والسخرية من النبي محمد. فالبابا يمثل الدين التقليدي المهيمن على غالبية الفرنسيين. في حين أن النبي محمد هو الرمز المبجل لأقلية مضطهدة. من هذه الزاوية، السخرية من البابا هي تحدّ لسلطة حقيقية، سلطة الغالبية. أما السخرية من النبي محمد فتضيف الإهانة إلى الظلم». صحيح، يقول ستانلي، إن سلطة الأغلبية في ديموقراطية ليبرالية ليست سلطة ملوك، لكنها مع ذلك تبقى سلطة.
ما يقوله ستانلي هنا إنه إذا كان الهدف من تحدي السلطة هو لإرغامها على التواضع، وتذكيرها دائماً أنها تحت عين المجتمع فكرياً وسياسياً، يجب أن نتذكر أن هذه السلطة في هذا المجتمع ليست واحدة، لا من حيث الحجم، وقوة التأثير، ولا من حيث مساحة الحرية المتاحة لها اجتماعياً وسياسياً. وبالتالي فإن التعامل مع جميع أشكال السلطة داخل المجتمع بالمنهج ذاته، وافتراض أنها متساوية في كل شيء، هو تعبير عن عدم المساواة، خصوصاً في مجتمع تأسس على فكرة تكامل «الحرية والمساواة والأخوة»، وهو شعار الثورة الفرنسية قبل أكثر من قرنين من الزمن.
من جانبه اختار فريد زكريا أن يتناول الموضوع من زاوية أخرى يتحدى من خلالها ليس فقط الإرهابيين الذين نفذوا مجزرة باريس، بل والدول الإسلامية التي تقول إنها تناهض الإرهاب وهؤلاء الإرهابيين. يذكر الصرخة التي أطلقها منفذو المجزرة وقولهم «ثأرنا لمحمد»، وذلك على أساس أن ما قاموا به هو تنفيذ لحكم القرآن ضد من يسخر أو يستهزئ بالنبي. هنا يشير زكريا إلى أنه لا يوجد في القرآن حكم ضد مثل هذا الاستهزاء. وذلك على عكس ما يرد في العهد القديم، أو التوراة، من حكم واضح بقتل من يسيء إلى أو يجدف blasphemes على اسم الله. ثم يقول إن كلمة blasphemy بمعنى التجديف لا ترد أصلاً في القرآن. وبحثت على عجل فوجدت أن كلمات مثل «جدف وتجديف، أو يهزأ ويستهزئ» لا ترد في القرآن. ترد كلمة «سخر» (بفتح السين وكسر الخاء) مرة واحدة في الآية 79 من سورة التوبة. والسخرية في هذه الآية موجهة، كما في الطبري والقرطبي، ليس إلى الله، ولا إلى النبي، وإنما إلى بعض الصحابة وآخرين تصدقوا استجابة لطلب النبي محمد. ما يريد أن يصل إليه الكاتب هو أن ما فعله إرهابيو باريس أنهم نفذوا شريعتهم، وليس شريعة القرآن.
في المقابل يشير الكاتب إلى أن بعض الدول الإسلامية التي شجبت حادثة باريس لديها قوانين ضد التجديف. وذكر في شكل خاص باكستان، وبنغلاديش، وماليزيا، ومصر، وتركيا والسودان. ثم ذكر أن السعودية تحرم ممارسة أي دين عدا رؤيتها الوهابية للإسلام. ثم يخلص من كل ذلك إلى أن التجديف لم يعد قضية محلية، وإنما يقع على تقاطع طريق دموي بين المتطرفين الإسلاميين من ناحية، والمجتمعات الغربية من ناحية أخرى. وبالتالي على الجميع، سياسيين غربيين، وقادة إسلاميين ومثقفين في كل مكان، التأكيد على أنه لا وجود للتجديف في القرآن، وبالتالي يجب ألا يكون له وجود في العالم الحديث. يبدو أن زكريا أساء التعبير هنا. فالتجديف كان ولا يزال، وسيظل موجوداً. السؤال: كيف ينبغي النظر إليه، والتعامل معه؟ هل هو بالعنف والسجن، والقتل، أم بالمجادلة بالتي هي أحسن؟ قد يأخذ التجديف أو السخرية صيغة الإساءة والإهانة، لمجرد الإهانة المتعمدة. وقد يكون موقفاً فكرياً في مقابل الموقف الديني. كيف ينبغي أن يكون الرد في هذه الحال؟ من الواضح أن الرد على الاثنين لا ينبغي أن يكون واحداً. وفي كل الأحوال يجب ألا يخلو الرد من مضمون فكري، يعزز مكانة الفكر، ويوسع من مساحته في ثقافة المجتمع وحضارته. وفي الإطار الذي تفرض القضية نفسها من خلاله بعد حادثة باريس، ما هو الفرق بين السخرية من الدين كمصدر للسلطة، ونقد هذه السلطة؟ مخاطبة السلطة، وإخضاعها للنقد هما لتخفيف هيمنتها على وعي المجتمع، تعزيزاً لمساحة الحرية، وإيجاد شيء من التوازن بين ضرورات هذه السلطة، ومتطلبات حق الحرية. وهذه عملية دقيقة وحساسة، تتطلب ما يتناسب مع طبيعتها هذه.
مهما يكن فالتجديف ليس قضية عالمية تماماً. الإرهاب هو القضية العالمية الآن. والتجديف بناء على ذلك ليس الأول، ولا أهم مسببات الإرهاب. المسؤول المباشر هو الإرهابي، والفكر الذي يعتاش منه. لكن المسؤولية لا تتوقف هنا. في يوم ما، لم يكن هناك إرهاب. كانت عناصر الفكر الإرهابي ثانوية في زاوية مظلمة. وفي يوم ما كان هذا الإرهابي أو ذاك طفلاً بريئاً. كيف ولماذا انقلب الأمر؟ إذا كان الإرهاب جريمة سياسية، فإن أهم العوامل التي تسببت في تفاقمه وانتشاره هي عوامل سياسية أيضاً. وهو ما يفرض إعادة الأمر إلى نصابه. حادثة باريس عملية إرهابية بامتياز. لكن إبادة أكثر من ربع مليون سوري من أجل أن يحتفظ حاكم سورية بمنصبه، عملية إرهابية أكبر حجماً وأكثر خطراً على الجميع. وهذا مجرد مثال واحد على أحدث وأخطر ما يعتمل في المنطقة. هل من الحكمة توقع نتيجة أقل سوءاً وخطراً من ذلك؟ هنا تبرز خطورة دور القلم في التعاطي مع القضية. القلم رمز للحرية، لكن يجب أن يحتفظ برمزيته للعقل وموازينه أيضاً.
* أكاديمي وكاتب سعودي