كان رئيس الوزراء الدكتور عبد الله النسور على حق حين قال في مجلس النواب أن توجه الحكومة للتعاقد مع إسرائيل لشراء الغاز عن طريق وسيط أمريكي قرار يحتمل الخطأ والصواب، وان القرار بذلك هو من خيارها وتتحمل مسؤوليته كاملة . وعلى الرغم من أن المجلس أخذ قرارا (توصية) بعدم توقيع الاتفاقية ،إلا أن كلا من وزيري الطاقة والمالية قطعا بتوقيع الاتفاقية، ثم عاد وزير الطاقة ينفي التوقيع حتى الآن.
ومن حيث المبدأ فإن إعطاء خيار الغاز هذه الهالة من الأهمية واعتباره مسألة حياة أو موت للاقتصاد ،وأنه البديل الأوحد، أمر بعيد عن الحقيقة وفيه شطط غير مبرر، ولا ينسجم مع ما يجري في العالم. إضافة إلى أن “خلط الأوراق” وإعطاء “نصف معلومات” قد يساعد على تمرير قرار معين ولكنه لا يساعد الوطن على المدى البعيد،لأسباب عديدة: 1- دخل الغاز المصري الأردن عام 2007. فماذا كان الأمر قبل ذلك؟ لماذا لم تكن الصناعة الوطنية مهددة؟ ولم تكن المديونية تتزايد مئات الملايين بسبب الكهرباء؟ ولم يكن مستقبل الطاقة في الأردن على كف عفريت اسمه الغاز كما نسمع اليوم؟ 2- إن نسبة الغاز المستعمل في توليد الطاقة في العالم هو في حدود 20% والفحم 40% وليست جميع دول العالم تستعمل الغاز، بل إن الكثير من دول العالم التي لا يتوفر لديها آو جوارها لا تستعمل الغاز. وأن إسرائيل حتى عام 2002 لم تستعمل الغاز. 3- حسب خطة وزارة الطاقة فإن خليط الطاقة المتوقع أو المخطط له عام 2020 سوف يتضمن الغاز بنسبة 20% لتوليد الكهرباء والصخر الزيتي 15% بمعنى أن دور الغاز في فاتورة عام 2020 سيكون في حدود 8% من الفاتورة الإجمالية للطاقة فقط فهل سيحل ذلك مشكلة المديونية وأزمة الطاقة وينعش الاقتصاد الأردني؟ ماذا عن الـ 92% من الفاتورة ؟ وهل تبرر 8% التعاقد لشراء الغاز الإسرائيلي بكل المنزلقات السياسية والرفض الشعبي؟ و هل من الحكمة التسرع في التوقيع في حين أن الغاز لن يكون متاحا قبل عام 2017؟ كل ذلك في ظل العدوانية الإسرائيلية المستمرة وآخرها قانون يهودية الدولة وما سوف يترتب عليه من أضرار جسيمة بالمصالح الأردنية؟ 4- هل سيكون التعاقد مع الحكومة الإسرائيلية أم مع شركة نوبل الأمريكية لتيسير حصولها على التسهيلات المالية اللازمة للمشروع؟ وما هي مسؤولية كل منهما ؟ إذ ليس من الحكمة إعادة قصة حسين سالم والغاز المصري. وحقيقة الأمر أن التعاقد مع الشركات في المواضيع السيادية هو التفاف على نصوص الدستور والتي تلزم الحكومة بالحصول على موافقة مجلس النواب في مثل هذه الحالة . فالتعاقد في مصادر الطاقة هو في جوهره بين دول كما جاء في بيان الرئيس. والشركات ما هي إلا مجرد وسيط منفذ أو ستار للتحلل من الالتزامات الدستورية. 5- أن الأردن يستطيع حتى الآن أن يضغط على إسرائيل لأنه لم يلزم نفسه بأية اتفاقيات أو برامج شديدة الحساسية . هذا في الوقت الذي تعمل فيه إسرائيل على التهرب من التزاماتها التي تفرضها معاهدة السلام. ما الذي سوف يمنع إسرائيل من التهديد بقطع الغاز إذا تدخل الأردن ضد انتهاكاتها للمعاهدة ومحاولتها السيطرة على الأقصى والمقدسات الأخرى؟ ما الذي يمنعها أن تضع يهودية الدولة في كفة، و استمرار الغاز، بعد أن نصبح معتمدين عليه، في كفة أخرى؟ 6- القول بأن السعودية ليس لديها غاز غير دقيق. فاحتياطي السعودية هو (2%) من الاحتياطي العالمي ،في حين أن الغاز الإسرائيلي أقل من ذلك بكثير. وليس دقيقا أن العراق ليس لديه غاز، فالغاز العراقي يضع العراق في الترتيب (19) بين دول العالم في احتياطي الغاز في حين تقع إسرائيل في الترتيب (43) . 7- ماذا لو وقع تفجير لأنبوب الغاز القادم من إسرائيل كما وقع في سيناء (18) مرة ؟ هل سيكون ذلك عاديا أم سوف يضرب مصالحنا الاقتصادية وربما يفسد العلاقة الأردنية الفلسطينية؟ 8- أين المفاوضات المطولة لاستيراد الغاز من السعودية أو من قطر أو من العراق أو الجزائر؟ 9- لماذا هذا التضييق غير المبرر على حصة الصخر الزيتي والطاقة البديلة وأهمها الشمسية و الرياح؟ و لماذا الذهاب إلى الغاز الإسرائيلي والطاقة النووية وكليهما خيارات حديّة خطرة غير اعتيادية وغير مبررة اقتصاديا وفنيا؟ 10- : لماذا يجري إهمال “الفحم” و استيراده ضمن عقود طويلة؟ وهو أرخص مصدر لتوليد الطاقة حتى الآن و على مستوى العالم؟ وتستعمله إسرائيل منذ أكثر من (30) عاما ونسبته في خليط الطاقة الإسرائيلي (37%) لعام 2009.
لماذا يجري إهمال التطورات التكنولوجية المستقبلية التي أخذت ملامحها تظهر من الآن بالابتعاد التدريجي البطيء عن التوليد المركزي للطاقة إلى التوليد العنقودي حتى مستوى المبني الواحد والبيت الواحد؟ إن الفترة المستقبلية بالغة التعقيد و مليئة بالإنجازات وتحمل الكثير من التقدم التكنولوجي سواء في الاندماج النووي أو الطاقة المتجددة، والقفزات تتحقق بخطى واسعة جدا. كذلك فإن مشاكل تخزين الطاقة على مستويات كبيرة سوف يتم حلها بكلف اقتصادية مقبولة تماما في غضون (10) سنوات على الأكثر.
إن الحقيقة الساطعة أن كلا من الغاز الإسرائيلي والمحطة النووية سوف يضعان الأردن عرضة للضغوط ،لان إسرائيل تستطيع في آي وقت أن توظف الغاز والمحطة النووية لخدمة مشاريعها السياسية التوسعية، فتوقف الغاز إذا شاءت و تبتز المشروع النووي بحجة انه يشكل خطرا إشعاعيا كبيرا إذا وقعت كارثة نووية.
إن الغاز الإسرائيلي الخاطئ والمشروع النووي بتوقيته الخاطئ وموقعه الخاطئ وحجمه الخاطئ بالنسبة للشبكة الكهربائية والاقتصاد سوف يؤديان إجباريا إلى ربط الأردن بإسرائيل قبل أن يحل السلام و قبل أن تذعن إسرائيل للحق والعدل والقانون. ذلك أن الربط بالغاز سوف يترتب عليه عدم القدرة على الانفكاك. وعند إتمام المحطة النووية بحجمها المبالغ فيه سوف تضطر إدارة الكهرباء إلى الربط مع شبكة كبيرة حتى تضمن استقرار وتوازن الشبكة. وهنا سيظهر الربط مع إسرائيل طبيعيا وتلقائيا. والمشهد المتوقع عام 2023 أن يخرج وزير الطاقة آنذاك ليطرح معادلة بسيطة: “نستورد الغاز من إسرائيل ونصدر لها الكهرباء بالمقابل وبذلك نحقق وفرا اقتصاديا.” وهذا جوهر نظرية نتنياهو التي أعلنها بأن “الأمن في المنطقة هو أمن اقتصادي وليس سياسيا”.إن مثل هذا المشهد لا يمكن القبول به قبل أن يغلق ملف الصراع العربي الإسرائيلي والملف الفلسطيني نهائيا.
وخلاصة الأمر انه لا مبرر أبدا ليرتبط الأردن بمشروع نووي فيه أخطاء وأخطار هائلة لمدة (60) عاما، أي جيلين كاملين، ليصبح خلال (20) سنة نظاما قديما خطرا على المواطن والوطن. ولا مبرر للإعتماد على الغاز ذاته في فترة تمارس فيه إسرائيل كل الانتهاكات ضد الفلسطينيين والعرب، ولا يأمن احد من غدرها . إن مشاريع “التهجير” و”الوطن البديل” و”يهودية الدولة” و”هذه الضفة لنا و الضفة الأخرى لنا” و هدم الأقصى و إقامة الهيكل المزعوم” كلها لا تزال راسخة في البرنامج الاستراتيجي الصهيوني و لا زالت فاعلة في العقل والسلوك الإسرائيلي، و لا نعرف متى خناجر الغدر توجه ربما باتجاهنا.هل تقبل إسرائيل أن تلتزم دوليا بإلغاء هذه المشاريع؟ لنقرأ بحرص شديد ما يقول نتنياهو، وما يفكر به اليمين الإسرائيلي من جهة, ولنقرأ المعلومات الصحيحة غير المجتزأة عن الطاقة في بدائلها وأرقامها و تطوراتها السريعة من جهة أخرى ،و لنخرج من الرؤية الضيقة و الخيارات الحدية المتطرفة، و لنستخدم ما لدينا من مصادر، و أخرى متاحة ، حتى نتفهم الموضوع بعمق، ونبني المستقبل بشكل أفضل وأكثر أمانا وأقل كلفة.