لا أعتقد أن أحداً يختلف على حقيقة أن انفراط عقد العرب السنّة وعدم انتظامهم في إطار جامع لم ينعكس سلباً فقط على أوضاع هذا المكون، كلاً أو جزءاً، جماعات وأفراداً، بل تعداه إلى الساحة الوطنية. تراجعت أحوال المكون العربي السنّي وتراجعت معها أحوال الوطن. ظاهرة ليست غريبة أو مفاجئة إذ العرب السنّة مكون أساس في التركيبة المجتمعية العراقية وبالتالي لا بد له أن يؤثر ويتأثر على مستوى الوطن، وعلى رغم أن أحوال بقية المكونات لم تستقم هي الأخرى كما هو مأمول إلا أنها تبقى أفضل بكثير من أحوال المكون العربي السني.
إن ترتيب البيت السني حاجة موضوعية وضرورة وطنية، ولا يصح أن تفسر هذه الدوافع بسوء فهم أو شبهة طارئة. لقد فشلنا في تسويق همومنا ورؤانا في الداخل والخارج، وفي كل مرة نطرح فيها وجهة نظر أو فكرة جديدة أو مشروعاً كان يصدمنا السؤال الذي ظل يتكرر على مسامعنا على مدى سنوات: هل أنتم متفقون على ذلك؟ لماذا لا تتفقون على ذلك؟ ولهذا السبب لم تر العديد من الأفكار البناءة النور بل أجهضت في مهدها، أو بقيت معلقة حتى اللحظة.
وبفعل التطهير الطائفي الذي لم يتوقف وحالة الانقسام والتشرذم تراجعت أهمية المكون السني على مدى السنوات الماضية وتراجع معها دور ممثلي العرب السنّة في العملية السياسية، حتى باتت المحافظات السنية ساحة حرب استنزاف، فهي من جانب مختطفة من تنظيم يفرض بالإكراه وتحت سياط التكفير والردة نموذجه المثير للجدل في إدارة دولة، وهي أيضاً – أي المحافظات – مبتلاة في الوقت نفسه بهجمات بربرية لا تتوقف من جانب المليشيات الشيعية تحت غطاء محاربة الإرهاب، وهكذا تلاشت فرص الحياة واضطر الناس إلى النزوح بموجات لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق الحديث. وللحد من ظاهرة التراجع المتواصلة ومن أجل استعادة العافية والخروج من هذا النفق المظلم لا بد من رؤية مشتركة تفضي إلى مشروع موحد يترجم إلى آليات تنفذ جماعياً وتأخذ طريقها إلى التنفيذ من دون تأخير، لكن كيف يتحقق ذلك في ظل حالة الانقسام والتشرذم؟
من المؤسف أن العرب السنّة انقسموا انقساماً حاداً منذ بواكير غزو العراق عام 2003 حول جدوى ومشروعية الانخراط في العملية السياسية والدستور والتعامل مع المحتل، وتواصلت تداعيات هذا الانقسام حتى يومنا هذا وانسحبت على ملفات حساسة وهامة تعنى بالحاضر والمستقبل. ولا يزال العرب السنّة منقسمين على مشروع الحرس الوطني، والحرب على الإرهاب، والإقليم السنّي المقترح وغير ذلك. بينما الحاجة ماسة للاتفاق وتوحيد وجهات النظر لكن لا أمل في تحقيق ذلك إلا من خلال منظومة جامعة يجري في إطارها حوار صريح وجاد ومتواصل، وتنبثق من مؤتمر وطني للعرب السنّة.
ضاعت على العرب السنّة فرصة ذهبية خلال عام 2013 عندما التقت على مدى عام كامل قلوب الملايين وعقولهم وانخرطوا في نسق فريد في إطار الحراك الشعبي، وكم كان ممكناً وقد آلمها المصاب واستجابت للنداء وأخذت بالعزيمة أن تنخرط هذه الملايين بسهولة ويسر في إطار تنظيم جامع، لكن الفرصة تلاشت ومعها مناشداتي المتكررة التي أضاعها تشدد البعض وقصور نظره على رغم أن المصيبة كبيرة ومصابها أكبر، وكان المفروض أن ذلك وحده يدفع الناس إلى التجمع والانتظام على قاعدة أن المصائب يجمعن المصابينا. اعترض البعض ولأسباب شكلية وليست جوهرية! والحجة في ذلك هي الحذر من أن يتلون المشروع العربي السنّي بلون الطائفية وما قد ينسحب ذلك سلباً على وحدة العراق. مخاوف ليست في محلها إطلاقاً، ليس فقط لأن هذه الدعوة لا تستهدف أحداً بالأذى بل لأن الاستقطاب المذهبي والعرقي قائم وبات حقيقة ماثلة حتى لو لم ينتظم العرب السنّة، حيث البيت الشيعي منظم وكذلك البيت الكردي وليس الآن ولكن منذ زمن بعيد. لهذا يبدو أن الرفض هو لغرض الرفض والجهات الرافضة أو المتحفظة لا تعرض البديل، وكأنها بخلاف منطق الأمور وغياب النظرة العقلانية لإدارة الأزمة تفضل بقاء الحال الفوضوي المؤلم كما هو عليه، وهو موقف يتسم بالغرابة واللامسؤولية.
لا أنكر أن الخلافات داخل البيت السنّي كثيرة، لكن إلى جانب ذلك هناك مشتركات وثوابت لا يختلف عليها أحد يمكن أن تشكل أرضية مشتركة للقاء والحوار والتفاهم، إذ ليس من المنطق ونحن في حالة تراجع أن نتصدى للمختلفات ونضيع وقتاً ثميناً في جدل عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع. هذا وقت البناء على المشتركات وليس التخندق وراء المختلفات. وأن ما يتطلع إليه أهل السنّة ليس مرجعية دينية حصرية بل مرجعية عامة على شكل منظمة يشارك فيها علماؤنا الأفاضل جنباً إلى جنب مع ذوي الاختصاص مما يسهل تلاقح الأفكار وانضاج المواقف وتسويقها للآخرين بل وحتى تنفيذها على أرض الواقع.
منذ منتصف عام 2012 لم تنقطع الجهود من أجل عقد المؤتمر المنتظر، ومنذ ذلك التاريخ حصل تراجع خطير في الأوضاع العامة لسنّة العراق وتريث الداعون للمؤتمر على أمل أن يقدم الرافضون وصفة بديلة لإيقاف هذا التدهور لكنهم عجزوا، وليس أمامنا بعد ذلك خيار آخر سوى أن نمضي بالدعوة العاجلة لمؤتمر وطني يخدم غرض ترتيب بيتنا الداخلي الذي سيخدم من دون شك أغراض ترتيب بيتنا الوطني فضلاً عن عودة حميدة إلى محيطنا العربي والدولي.