في محاضرته القيمة في جمعية الشؤون الدولية حول الاقتصاد الوطني، ركز الدكتور عمر الرزاز على إشكالية البطالة باعتبارها الأخطر والأعقد اجتماعياُ و إنسانيا واقتصادياُ. وبالتالي فقد كان من المفروض أن يكون “التشغيل” هو المحور ألأساس في التخطيط والنشاط الاقتصادي من أجل رفع قدرته على توليد فرص العمل والتي يحتاج الأردن منها ما يزيد عن (75) ألف فرصة عمل سنوياُ. وأكد الرزاز أن الإقتصاد الوطني لا يولد أكثر من 40 ألف فرصة عمل في حين يضاف 35 ألفا من الشباب في كل عام إلى من سبقهم من العاطلين ليعانوا من الخيبة والإحباط و الإنتظار.أما القطاع العام فإنه مشبع بما لديه ،إذ يوظف أكثر من (42%) من القوى العاملة ، أي ما يعادل (3) أضعاف النسبة لمتوسط دول منظمة التعاون. وهذا ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني وعلى الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل دافعا لمزيد من الاستدانة والاستمرار في الحلقة الإقتصادية الإجتماعية المفرغة . و في كوريا واليابان مثلاُ فإن القطاع العام لا يوظف أكثر من (6%) و(7%) من القوى العاملة على التوالي .
لقد كانت هناك أفكار متنوعة حول مواجهة أزمة البطالة، و التي تشترك فيها جميع الدول العربية، حيث ينتظر الشباب حظهم أو دورهم في فرصة عمل مناسبة قد لا تأتي بعد عدة سنوات. وهم كثيراُ ما يجدون منافسة متزايدة من القوى العاملة الوافدة أو اللاجئة.
إن العوامل التي تفاقم من هذه الحالة لا زالت تتصاعد و تتمثل أساساُ في : أولاُ : غياب الرؤية الإقتصادية الإجتماعية لدى الدولة، و التركيز الدائم والمفرط على الموضوع المالي وعجز الموازنة .ثانياُ : عدم توجيه الاقتصاد وفق برامج مستقرة وعملية لتوليد فرص العمل، والاستعاضة عن ذلك بالمساعدات والقروض من جهة، و بتصدير القوى العاملة الأردنية إلى الخارج من جهة أخرى. وهي خسارة مزدوجة عميقة الأثر اقتصاديا واستهلاكيا و اجتماعيا و نفسيا ووطنيا. ثالثاً : توجه الاستثمار والمستثمرين على مدى السنوات الماضية ، و دون اكتراث من الدولة، إلى أسواق العقار والمال والتي لا تولد فرص عمل دائمة، و ترفع الأسعار خارج إمكانات الإقتصاد الوطني، و فوق “تحملية” المواطن . رابعاُ : هناك ثقافة العيب من جهة و ثقافة الشهادة من جهة أخرى، وإحجام الشباب عن ارتياد مجالات العمل غير المكتبية، خاصة وأن التشريعات ونظام الأجور يربط الدخل بالشهادة والأقدمية وليس بالتميز و الإبداع و المهارة و الكفاءة . خامساُ : التركيز على التعليم الجامعي واهمال التعليم المهني والتكنولوجي. وفي نفس الوقت عجز التعليم الجامعي عن التواؤم مع متطلبات السوق، سواء من حيث التخصصات أو الكفاءة والمهارات أو المستوى العملي التطبيقي .
و لا خلاف على أن هناك الكثير من الأفكار حول إمكانات العلاج في إطار البنية الاقتصادية القائمة تتضمن إنشاء مجالس مشتركة تجمع القطاع العام والقطاع الخاص والجامعات ونشر ثقافة العمل و إصدار ميثاق للتشغيل الوطني يبدأ بالمدرسة و يستغل العطلات الصيفية، وتشجيع الشباب على المشاريع الريادية و غيرها.
نقول، كل ذلك صحيح، ولكنه لن يخاطب جوهر المسألة بالعمق ،لأن “العقم في بنية الإقتصاد نفسه”. الأمر الذي يستدعي وضع و تنفيذ إستراتيجية وطنية لتغيير بنية الاقتصاد الوطني . ذلك أن العقار والمال والتعدين والتي تمثل 66% من الإستثمارات، و كذلك التجارة و الزراعة والخدمات غير المتقدمة تكنولوجيا لا تستطيع أن تولد فرص عمل إلا في الحدود الدنيا، و تكون القيمة المضافة فيها متواضعة تماما.ما هي فرص العمل الذي يمكن أن تولده مستوردات تتجاوز 13 مليار دينار سنويا مقابل تصنيع 25% منها محليا؟؟ وعليه فليس هناك من فرصة فعلية للحد من البطالة المتفاقمة، و لزيادة دخل الفرد الأردني سوى الإفادة من تجربة الدول الناهضة، وعلى النحو التالي . أولاً : التوجه نحو تصنيع الاقتصاد، وتحويل إلى الأردن إلى دولة صناعية خلال (20) عاماً على غرار ما نجد في شرق آسيا و غيرها. والعمل على دفع الصناعات الكبرى التي لديها ميزة نسبية وقدرة على توليد صناعات جديدة لتكون قواعد انطلاق لبرامج التصنيع . ثانياً: إن التعليم الجامعي بحد ذاته ليس أمراً سلبياً في المجتمع الصناعي فأكثر الشعوب والأفراد دخلاُ هي أعلاها تعليماُ. ولكن الإشكال الذي لم يدركه البعض أن التعليم العالي مطلوب أكثر، في المجتمعات الصناعية والمعرفية، و ليس في مجتمعات ما قبل الصناعة والمعرفة. وهو لدينا بحاجة إلى تطوير وتحديث واقتراب أكثر من الجوانب التطبيقية. كما أن التعليم المهني بحاجة إلى توسيع و انتشار و تطوير وتحديث ليصبح تعليماً تكنولوجياً متقدماُ و مطلوبا أساسا في الإقتصادات الصناعية. ثالثاُ : إن الوظائف المهنية والخدمية بصورتها البسيطة سواء كانت في الزراعة أو الإنشاءات أو الخدمات ليست مقبولة على علاتها لدى الشباب والأجيال الصاعدة. بل تتطلب تحديثات تكنولوجية جذرية تشترك فيها الجامعات والنقابات والمعاهد والقطاع الخاص . فالمجتمع الصناعي لم يترك عملاُ إلا وفر له الماكنات والمعدات والأجهزة، ابتداء من نظافة الشوارع وتربية الدواجن وانتهاء بالصناعات الكبرى. رابعاُ : إن العمالة المحلية وخاصة في المحافظات تتطلب برامج للتنمية المحلية، وكذلك أنظمة نقل وإسكان ورعاية صحية ، ينبغي للدولة ولمنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص أن يكونوا شركاء فيها . و دون مشاريع إنتاجية و صناعات إحلالية لن تتحقق تنمية المحافظات. خامساً : إن الاستثمارات الأجنبية مهما كبر حجمها هي ليست ذات قيمة إذا اقتصرت على شراء ما هو قائم من عقارات أو مرافق أو مصانع أو مؤسسات. بل إنها ذات تأثير سلبي تماماُ. والمطلوب أن ينظم القانون الاستثمار الأجنبي ليقتصر على الإضافات الجديدة والإنشاء الجديد للمصانع والمرافق الإنتاجية. وأذاك فقط يعمل هذا الاستثمار على توليد فرص عمل جديدة، و يكون إضافة حقيقية للإقتصاد الوطني. سادساً :إن تصنيع قطاع النقل من خلال السكة الحديد والتوسع في برامج الطاقة المتجددة ومحطات الصخر الزيتي من شأنها أن تولد فرص عمل لعشرات الآلاف.
و أخيرا، و حتى لا نحرث البحر سنة بعد سنة، فإن أزمة البطالة بالغة الخطورة والأهمية، وهي مرتكز الأمن الإنساني و الاجتماعي، و مدخل لتفويت الفرص على التطرف والإرهاب. وليس لنا من حل سوى التغيير الجذري في التعامل مع الاقتصاد الوطني ووضع برنامج طويل الأمد للتصنيع الشامل حتى تستطيع الأجيال القادمة أن ترى مستقبلاُ مشرقاُ في ربوع أوطانها