مع انفراط عقد الحكومة الإسرائيلية الحالية، وقرار حل الكنيست لنفسه، والبدء بالتحضير لانتخابات برلمانية جديدة، بات على الجميع الانتظار من ستختار إسرائيل للكنيست القادمة، وبخاصة أن الأحزاب الإسرائيلية بدأت فعليا بالتحضير لحملاتها الانتخابية، وإن كانت هذه التحضيرات الآن تقتصر على التصريحات الإعلامية، وعقد التحالفات الحزبية، إلا أنها تعطي إشارات بأن الخطاب المستخدم يدفع باتجاه مزيد من التعصب في الشارع الإسرائيلي، وما نسمعه لغاية الآن هو خطاب عنصري يتبارى في إنكار الحق الفلسطيني، لا بل ويدفع باتجاه تحويل الصراع إلى صراع ديني بإصراره على تأكيد وتجسيد مفهوم “الدولة القومية اليهودية”، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وما يؤكد هذا هو ما تقوم به إسرائيل تجاه مدينة القدس وما حولها من تهويد مصادرة وتزوير للتاريخ والجغرافيا. هذا الأمر لا بد له بأن يدفع المجموعات الإسرائيلية، وغيرها من يهود العالم الذين يؤمنون بضرورة إنهاء الصراع على أساس حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية لأن يتحركوا ويحثوا الآخرين على التحرك قبل فوات الأوان وضياع الفرصة.
فكرة “الحق الإلهي لليهود” في أرض فلسطين، التي تتمسك بها ليس فقط الأحزاب الدينية واليمينية الإسرائيلية، بل أيضا مجموعات أخرى داخل إسرائيل وخارجها من اليهود، وأتباع المسيحية الصهيونية أو ما اصطلح على تسميته بــــــ”المسيحيين الجدد”، يعاد الآن صياغتها وإنتاجها وزرعها في نفوس الإسرائيليين لخدمة أجندات فكرية _ سياسية تؤسس لصراع ديني سيطيح بالمنطقة بشكل عام، ولن تكون دول العالم، وبخاصة دول أوروبا بمنأى عن هذا الصراع لأسباب جغرافية وتاريخية ودينية، وسياسية أيضا، مما يقودنا إلى القول بأن ما أسست له بريطانيا العظمى عبر وعد بلفور، ولاحقا دعم الدول الأوروبية لإقامة “وطن قومي لليهود”، عبر موافقتها على قرار التقسيم، شعورا منها بالذنب على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا ((ولا بد من الإشارة إلى أن التاريخ، في بعض رواياته، يخبرنا بأن هناك من اليهود أنفسهم من شارك في حملات الاضطهاد هذه وضخمها، لأغراض سياسية ودعائية من أجل التسريع في نقل اليهود إلى فلسطين))، يحتم على هذه الدول أن تأخذ دورها في درئ مخاطر وتبعات ما أسست له، ومحاولة تصحيح خطيئتها وغلطتها التاريخية، على أقل تقدير، من خلال منع تسمية إسرائيل لنفسها بـــــ”دولة قومية يهودية”، من ناحية، وحماية ودعم حل الدولتين وفق قرارات الشرعة الدولية من ناحية أخرى.
كان وسيبقى تمسك الفلسطينيين بحل الدولتين هو الخيار الأمثل، وكل المؤشرات لغاية الآن تؤكد على أن الدولة الفلسطينية المستقبلية، ستكون دولة ديمقراطية علمانية تتسع لجميع مواطنيها على اختلاف مشاربهم الدينية والفكرية وغيرها، وجسدت وثيقة إعلان الاستقلال التي تم إقرارها عام 1988، في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر هذا التوجه، بالإضافة إلى تثبيتها لمفهوم حل الدولتين على أساس حدود الرابع من حزيران للعام 1967. وقبل الفلسطينيون بعدها بالدخول في مفاوضات مع الإسرائيليين، وبعيدا عن التفاصيل، تم التوصل إلى اتفاق أوسلو الذي أدخلنا في مرحلة جديدة كان من المفترض أن توصلنا إلى إنهاء الاحتلال، وتجسيد حل الدولتين على أرض الواقع، ومن أجل كل ذلك اجتمعت دول العالم، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي لدعم هذا الحل سياسيا وماديا لضمان الأمن والسلم في المنطقة والعالم.
دخلنا أو أدخلتنا إسرائيل في دوامة “عملية السلام” وما تخللها من اتفاقيات “ترقيعية” لإدامة الوضع القائم، وإطالة عمر الاحتلال بكل بشاعته وممارساته التي تهدف إلى “تثبيت الحق الإلهي” في “أرض الميعاد”، فزادت المستوطنات وتضاعف عدد المستوطنين في الأرض المحتلة عام 1967، وقلبت معالم مدينة القدس، وسميت المستعمرات بأسماء توراتية، وزادت غطرسة الاحتلال وممارساته التي لا تنم عن أي توجه نحو الإقرار بالحق الفلسطيني وفق ما تم الاتفاق عليه في أوسلو.
وعلى مدار أكثر من عشرين عاما، وبسبب السياسات الإسرائيلية العدمية والتي تمثلت باتخاذ “عملية السلام” كغطاء لتنفيذ مخططاتها في الوصول إلى هدفها الذي كان إلى وقت قريب غير معلن وهو إقامة دولة يهودية، وخلق أمر واقع على الأرض ينهي فكرة حل الدولتين، وجدت أوروبا نفسها، دون رغبة و/ أو إدراك منها، بأنها تمول استدامة الوضع القائم، تحت مسمى دعم “عملية السلام”، التي تقود إلى اللاشئ.
كذلك وفي ذات الوقت، ولنفس الأسباب تقريبا، وجدت الولايات المتحدة نفسها تستمر في دعم هذا الاحتلال، ولا تستطيع لأسباب عديدة أخرى أن تفعل شيئا تجاهه، بل عملت ومنذ توقيع اتفاق أوسلو على إدارة الوضع القائم، مع حرصها الشديد على عدم إغضاب إسرائيل، لا بل ودعمها، وإفشال أي محاولة لإدانتها في الهيئات أو المؤسسات الدولية وكان الــــ”فيتو” الأمريكي حاضرا لمنع أي مس بإسرائيل، وعلى الأغلب مرد هذا الدعم الأمريكي يعود ليس فقط للعلاقات التي لها جذورا تاريخية بين الدولتين، وضرورة وجود إسرائيل قوية لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة وغيرها من الأمور ذات العلاقة بالأمن والمصالح، بل أيضا لأن هناك مجموعات أمريكية منظمة وذات تأثير كبير في السياسات الأمريكية، مثل منظمة الايباك والمسيحيون الجدد الذين يعملون لصالح إسرائيل ودعم سياساتها غير مكترثين بما تمثله هذه السياسات من مخاطر جدية على أمن واستقرار المنطقة والعالم، هذا الدعم من قبل هذه المجموعات يُبقي القرار الأمريكي أسيرا، ويبعده عن أسس العدالة والحرية والمساواة التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية.
وتأسيسا على هذا، فإن الدعم الأمريكي لإسرائيل في نهايته قد يحميها على المدى القصير، ولكنه حتما وفي ذات الوقت يغذي الفكر المتطرف لدى العديد من الأحزاب الإسرائيلية على اختلاف مشاربها الفكرية، ويشجعها على الإصرار في المضي قدما نحو “الدولة القومية اليهودية”، والتي تؤسس بلا شك لسياسة فصل عنصري سيكون ضحيتها غير اليهود، وأيضا من يعارض هذا التوجه من اليهود أنفسهم، وينسف فكرة حل الدولتين، ويدفع وبشكل سريع إلى حل الدولة الواحدة والتي حتما ستكون دولة عنصرية بامتياز، مبنية على أساس ديني بحت. فإذا كانت الولايات المتحدة وللأسباب التي ذكرت لا تستطيع أن تقدم شيئا باتجاه إنهاء الاحتلال، فعليها أن تفسح المجال أمام دول العالم الأخرى، وبخاصة دول الاتحاد الأوروبي، وروسيا الاتحادية والصين ودول أمريكا اللاتينية وغيرها لكي تتدارك الأمر وتحافظ على ما تبقى من أمل في تجسيد حل الدولتين.
المطلوب الآن صحوة في الشارع الإسرائيلي لحماية نفسه من الذهاب نحو مزيد من التطرف والتعصب الذي سيعصف المنطقة بشكل عام، ومن أجل وضع الأمور في سياقها الصحيح وعدم تحريف المعنى المقصود، فالمطلوب هو إيجاد قيادة إسرائيلية مستعدة للإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، والقدس الشرقية عاصمتها، لأن بديل هذا هو استمرار الصراع وتأجيجه، فالشعب الفلسطيني لن يقبل بأن يبقى تحت الاحتلال، وهذا الأمر يقع على عاتق قوى السلام الإسرائيلية التي عليها أن تحذر الإسرائيليين من خطر الاستمرار في هذه السياسات العنصرية المتطرفة، وأن تطالبهم بأن يصحوا من الأحلام التي تنسجها لهم الأحزاب والقوى المتطرفة وما أكثرها الآن في النظام السياسي الإسرائيلي.
كذلك المطلوب الآن من دول أوروبا أن تحذوا حذو مملكة السويد في اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، لأن هذا الاعتراف الذي نقدره عاليا، يعتبر الحامي الرئيسي لحل الدولتين والقائم على أساس الشرعة الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ونعتبر أن تباطؤ الحكومات في هذا الأمر أو تجاهله سيؤدي في نهاية المطاف إلى اندثار هذا الحل، لذلك نجد في اعتراف برلمانات بعض الدول الأوروبية مثل اسبانيا وبريطانيا وفرنسا وايرلندا بالدولة الفلسطينية هو مؤشر مهم على إدراك ممثلي شعوب هذه الدول بخطورة اندثار حل الدولتين، ونأمل أن تفعل باقي الدول الأوروبية، وبخاصة ألمانيا ذات الفعل. ونعول في هذا الأمر على الجهد الفرنسي بشكل خاص، حيث أن فرنسا دولة أوروبية رئيسية ولها وزن وتأثير في قرارات دول الاتحاد الأوروبي، وموقفها من حل الدولتين واضح وصريح، وتعتبر من الدول الرئيسية الداعمة سياسيا واقتصاديا للشعب الفلسطيني، وكان لتصريحات وزير خارجيتها حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال عامين له وقع جيد على التطورات في هذا الاتجاه.
إن قرار القيادة الفلسطينية بالتوجه نحو مجلس الأمن من أجل إنهاء الاحتلال، والاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران، وما يعنيه هذا الأمر من إعادة تدويل للقضية الفلسطينية، ووضعها مجددا على أولى أوليات المجتمع الدولي، يتطلب دعما فلسطينيا وعربيا وإقليميا ودوليا، ونعول على أصدقاء الشعب الفلسطيني لتمريره في مجلس الأمن، ومن حقنا في هذا الموضوع أن نطالب الولايات المتحدة الأمريكية أن لا تقف عائقا أمام تمرير هذا القرار، فإذا كانت لا تستطيع أن تصوت معه، فعليها ومن منطلقات أخلاقية وقانونية أن تمتنع عن التصويت، فالإدارة الأمريكية الحالية برئاسة أوباما وكذلك وزير خارجيته جون كيري بذلت وعلى مدار السنوات الماضية جهدا لا بأس به من أجل إنهاء الصراع، وهذه فرصتها التي ربما تكون الأخيرة في إثبات صدق نواياها، ويسجل التاريخ للرئيس أوباما والوزير كيري هذا الانجاز في تحقيق العدالة والمساهمة في إنهاء آخر احتلال على وجه هذه البسيطة.
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالانتخابات الإسرائيلية فالمطلوب الآن هو تعزيز الوجود الفلسطيني في الداخل والحفاظ على حقوقهم كمواطنين وأصحاب أرض وحق وعدم الانتقاص منها عبر القوانين العنصرية، وبخاصة قانون “يهودية الدولة” الذي سيكون له تأثير سلبي مباشر عليهم، فالجهد الآن يجب أن ينصب على إفراز أكبر عدد ممكن من ممثلي القوائم العربية للكنيست، وما دون ذلك فلن نعول كثيرا على ما قد تفرزه الانتخابات الإسرائيلية لأن المقدمات في هذا الموضوع لا تبشر كثيرا، ومهما أنتجت فلن تفرز حكومة تقر بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو على أعلى تقدير لن يكون هناك حكومة تُوافق على حل الصراع على أساس مبادرة السلام العربية التي أقرت عام 2002، طالما بقي الوضع الفلسطيني وكذلك الوضع الدولي على ما هو عليه، بحيث لا تشعر الحكومة الإسرائيلية، بغض النظر عن طبيعة تشكيلتها، بأي نوع من الضغط عليها، وهنا تأتي أهمية تعزيز الوضع الداخلي الفلسطيني، والتوجه نحو مجلس الأمن والمنظمات الدولية، وأيضا أهمية اعتراف دول العلم بالدولة الفلسطينية المستقلة، وبخاصة من دول الإتحاد الأوروبي، والدول التي تعتبر نفسها صديقة لإسرائيل.
إن إنهاء الاحتلال وحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والعربي – الإسرائيلي، لا يعتمد فقط على النوايا، بل بحاجة إلى عوامل ذاتية وموضوعية تمهد له، من أهمها العمل على أن يكون الاحتلال مكلفا الإسرائيلي، وهذا شأن يعتمد على الفلسطينيين في تعزيز مقاومتهم الشعبية المثمرة، واحتضان وتنمية حركات المقاطعة للاحتلال، ودعم حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، وأيضا وبالتوازي مع هذا السير قدما نحو إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة، وتعزيز صمود القدس، والعمل بكل الطاقات لاعمار قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، وترميم الوضع الداخلي وتمتينه من أجل مواصلة العمل على الساحة الدولية ببرنامج سياسي ونضالي توافقي يحافظ على الثوابت الوطنية، ويؤدي في نتيجته إلى إنهاء الاحتلال.