عروبة الاخباري- خاص- كتب سلطان الحطاب: يرحل احمد اللوزي عن ارث اخلاقي وادبي ووطني كبير، وحتى وان لم يكن هذا الارث مكتوبا او برسم ان يُكتب لاحقا فانه ظل يسري في الناس، ويترك فيهم اثراً بليغاً وتأثيراً محسوساً.. فأبو ناصر كان اردنيا بامتياز، وعربيا بامتياز، وانسانيا بامتياز وقبل ذلك كان وطنيا بامتياز ايضاً..
لا ينعقد مجلس عزم او عزيمة يقرأ الوطن او يقرر شيئا فيه ادلة الا وهو على راس حضوره ولا يرحل عزيزاً من الاردنيين الا وابو ناصر في مقدمة مودعيه ومؤبنيه، ولذا كافأه الاردنيون يوم رحيله بهذا التشييع العرمرم من الحضور، وبهذا العزاء المتسع والذي استمر الاردنيون يتدفقون اليه من جهاتهم الاربع، ومن مهاجرهم على مختلف اتجاهاتهم .. فمن احب الاردن احب احمد اللوزي . ولذا كانت جنازته والتغزية فيه واسعة وعميقة الدلالة، وهي استفتاء على مكانته. فقد خرجت له عمان خروج البصرة في وداع الحسن البصري . وابو ناصر يعرف دلالة ذلك وهو الذي تخرج من كلية الاداب في جامعة بغداد وظل يحفظ ادب العرب وتاريخهم، ويتمثل ذلك في اسلوبه واخلاقه وسلوكه..
أوتي ابو ناصر الحكمة .و”من اوتي الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا” كما قال المولى عز وجل ..ووضع نفسه في خدمة وطنه وملوك الهاشميين الذين رأوا فيه علماً اردنيا واضح الالوان، وشخصية وفية مختبرة وحكيمة .
ولذا كان قريبا من الملك الراحل الحسين، والذي كان يستأنس برأيه، ويُفرده للمهمات الخاصة التي تحناج عقل ابي ناصر وهدوئه وحكمته ..
رأيته اول مرة ،وكنت شابا في مقتبل العمر أغطي لأحد التلفزيونات العربية وكان ابو ناصر يومها يتقدم وفدا اردنيا مشاركا في المسيرة الخضراء المغربية، تضامنا من الاردن مع المغرب في احتفاظه بالصحراء المغربية . كما رايته مرة اخرى وهو رئيسا للديوان الملكي الهاشمي بداية الثمانينيات،في لقاء كرم الملك فيه اوائل طلاب الدراسات العليا من الجامعة الاردنية حين كان أحمد اللوزي يقف بجانب جلالة الملك .. وحين كنت رئيسا لتحرير جريدة صوت الشعب اجريت معه مقابلة صحفية مطولة تعرفت من خلالها على عمق بصيرته وحكمته، واتساع معرفته بالادب العربي، وأحسست بحلاوة حضوره وسرعة بديهته ،وربطه بين الاحداث وقدرته على السماع وبناء الثقة والمصالحة بين المتخاصمين..
كانت له عينا الصقر وحلاوة العبارة وحسن مخارج الحروف والجملة القاطعة.. كان سيد المنابر والخطابة.. ومجيد الكتابة.. جمعتنا جلسة طويلة ،كنا نتحدث فيها عن اسماء وكتب في التراث اشبه بحديث متخصصي الطب يتحدثون امام غير المتخصصين.. تحدثنا عن ادب المشارقة والمغاربة، عن كتاب ابن عبد ربه الاندلسي حين ارسله للمشارقة في بغداد ليعطوا رايهم فيه.. وقد كتبوا عليه “هذه بضاعتنا ردّت الينا” وحدثني عن علماء البصرة والكوفة من النحاة . وعن أدب بلاط الهاشميين في بغداد، والشعراء الذين كانوا يرودونه . وعن اول لقاء له في عمان مع الملك المؤسس عبدالله الاول.. وعن مثوله بين يديه وعن اختبار الملك لمحفوظات الطالب أحمد اللوزي الخريج الجديد في الادب من بغداد..
ظل ابو ناصر وفيا لافكاره. وظل معتدلا حكيما، لا تستفزه الاحداث الا ميلا باتجاه وطنه وخدمته.. ولم تجعل الايام الصعبة التي واجهها في فمة مرارة، بل ظل يلهج باسم وطنه ومليكه، ولم يعرف للمعارضة او الشغب الصالوني طريقا وكانت اساليب الفهلوة السياسية المصحوبة بالابتزاز وتغيير المواقف بتغيير المواقع عند البعض تثير سخريته الصامتة..
كان عف اليد واللسان . لم يسجل عليه مسا بمصالح وطنه او ماله العام، كما لم يسجل عليه اساءة لصديق او صاحب موقع او منصب غيرة او حسداً..
ساهم في بناء التعليم وترسيخ الادارة.. وتأكيد المؤسسية واحترام القانون وهذا أهله ليقود التعديلات الدستورية ولجنتها الملكية حين عجم الملك عبدالله الثاني كنانته فوجده أشد رجال مملكته ايمانا بالدستورية والمؤسسية فاختاره .. وقد اختار فيه الحكمة..
تقلد الراحل احمد اللوزي اهم المناصب.. كان يدخلها مملوءا بالحماسة ويخرج منها نظيفا عطر السمعة..
في أيام عزلته الطارئة الأخيرة ، ظل يحرص أن يكون قريبا من الناس وأن يشارك في مناسباتهم. فقد زاره جلالة الملك عبدالله الثاني قبل رحيلة بأسابيع زيارة ولّدت الغبطة في نفسه، وأمدته بالثقة والطاقة والمحبة، التي لم تغادره أبدا..
وأخيرا شكره الاردنيون بهذه الاعداد المعزية التي لم تتسعها أية صاله سوى ساحة صرح الشهيد في المدينة الرياضية..
سيرة حياته تستحق كتابا يجمع اوراقه وكلماته ومساهماته وارائه ومذكراته. فهو جزء من تاريخ هذه المسيرة الخيرة.. وقد ظل بحكمته يساهم في رعايتها وظل يزرعها بكل ما آمن به من قيم.. وظل شعاره دائما.. “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر”
رحمك الله يا ابا ناصر.. رحمة واسعة، فلقد تركت في أهلك و اصدقائك، ومعارفك ،وابناء وطنك، ومواقعك العامة التي توليتها ما سيجعل كل هؤلاء يتذكرونك ابدا. فمن اوتي الحكمة مثلك فقد أوتي خيرا كثيرا، ولعل هذا الخير هو الثروة الهائلة من الاحترام والتقدير والمودة لشخصك ودورك .